وليست المشكلة في الموت .. فالموت باب وكل الناس داخله .. لكن المشكلة الكبرى .. والداهية العظمى .. ما الذي يكون بعد الموت .. أفي { جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر } .. أم في { ضلال وسعر * يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسَّ سقر} .. * * * * * * * * * * ولأجل ذلك .. فالصالحون يشتاقون إلى لقاء ربهم .. ويعدون الموت جسراً يعبرون عليه إلى الآخرة .. نعم .. يفرحون بالموت ما دام يقربهم إلى ربهم ..
* * * * * * * * * * بل كان الصالحون يفتنون في دينهم .. ويهددون بالموت .. فلا يلتفتون إليه .. نفوسهم صامدة .. على غاية واحدة .. هي الموت على ما يرضي الله .. فهم كما قال الله لهم : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } .. نعم .. ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون .. - لما ربط الكفار خبيب بن عدي رضي الله عنه على جذع نخلة ليقتلوه .. لم يفزع .. ولم يجزع .. بل أخذ ينظر إليهم ويقول : لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمع إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي وما أرصد الأعداء لي عند مصرعي ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وان يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع - ولما دخل سعد بن أبي وقاص على ملك الفرس .. صرخ في وجهه وقال : جئتك بقوم يحبون الموت .. كما تحبون أنتم الحياة .. - وفي معركة أحد يكثر القتل بالمسلمين .. وتتسابق سهام الكفار إلى رسول صلى الله عليه وسلم .. فكان أبو طلحة رضي الله عنه يرفع صدره ويقول : يا رسول الله لا يصيبك سهم .. نحري دون نحرك .. نعم ما دام أن الموت في رضا الرحمن فمرحباً بالموت .. * * * * * * * * * * بل كانت المعاصي والشهوات .. والآثام والملذات .. تعرض على الصالحين .. فلا يلتفتون إليها .. فيهددون بالموت .. فيختارونه .. فربهم أعظم عندهم من كل شيء .. ذكر ابن كثير وغيره : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث جيشاً لحرب الروم .. وكان من ضمن هذا الجيش .. شاب من الصحابة .. هو عبد الله بن حذافه رضي الله عنه .. وطال القتال بين المسلمين والروم .. وعجب قيصرُ ملكُ الروم من ثبات المسلمين .. وجرأتهم على الموت .. فأمر أن يحضر إليه أسير من المسلمين .. فجاءوا بعبد الله بن حذافة .. يجرونه .. الأغلال في يديه .. والقيود في قدميه .. فأوقفوه أمام الملك .. فتحدث قيصر معه فأعجب بذكائه وفطنته .. فقال له : تنصر .. وأطلقك من الأسر .. فقال عبد الله : لا .. فقال قيصر : تنصر .. وأعطيك نصف ملكي .. فقال : لا .. فقال : تنصر .. وأعطيك نصف ملكي .. وأشركك في الحكم معي .. فقال عبد الله : والله لو أعطيتني ملكك .. وملك آبائك .. وملك العرب والعجم .. على أن أرجع عن ديني طرفة عين ما فعلت .. فغضب قيصر .. وقال : أذن أقتلك .. قال : اقتلني .. فأمر قيصر به فسحب .. وعلق على خشبة .. وجاء قيصر .. وأمر الرماة .. أن يرموا السهام حوله ولا يصيبوه .. وهو في أثناء ذلك يعرض عليه النصرانية .. وهو يأبى .. وينتظر الموت .. فلما رأى قيصر إصراره .. أمر أن يمضوا به إلى الحبس .. ففكوا وثاقه ومضوا به إلى الحبس .. وأمر أن يمنعوا عنه الطعام والشراب .. فمنعوهما .. حتى إذا كاد أن يهلك من الظمأ والجوع .. أحضروا له خمراً .. ولحم خنزير .. فلما رآهما عبد الله .. قال : والله إني لأعلم أن ذلك يحل لي في ديني .. ولكني لا أريد أن يشمت بي الكفار .. فلم يقرب الطعام .. فأخبر قيصر بذلك .. فأمر له بطعام حسن .. ثم أمر أن تدخل عليه امرأة حسناء تتعرض له بالفاحشة .. فأدخلت عليه .. وجعلت تتعرض له وهو معرض عنها .. وهي تتمايل أمامه ولا يلتفت إليها .. فلما رأت المرأة ذلك .. خرجت غضبى وهي تقول : والله لقد أدخلتموني على رجل .. لا أدري أهو بشر أم حجر .. وهو والله لا يدري عني أأنا أنثى أم ذكر .. فلما يئس منه قيصر .. أمر بقدر من نحاس .. فأغلي فيها الزيت .. ثم أوقف عبد الله بن حذافة أمامها .. وأحضروا أحد الأسرى المسلمين موثقاً بالقيود .. حتى ألقوه في هذا الزيت .. وغاب جسده في الزيت .. ومات .. وطفت عظامه تتقلب في فوق الزيت .. وعبد الله ينظر إلى العظام .. فالتفت قيصر إلى عبد الله .. وعرض عليه النصرانية .. فأبى .. فاشتد غضب قيصر .. وأمر بطرحه في القدر .. فلما جروه إلى القدر .. وشعر بحرارة النار .. بكى .. ودمعت عيناه .. ففرح قيصر .. وقال : تتنصر .. وأعطيك .. وأمنحك .. قال : لا .. قال : إذاً .. لماذا بكيت .. فقال عبد الله : أبكي لأنه ليس لي إلا نفس واحدة تلقى في هذا القدر .. فتموت .. ولقد وددت والله أن لي مائة نفس كلها تموت في سبيل الله .. مثل هذه الموتة .. فقال له قيصر : قبل رأسي وأخلي عنك ؟ فقال له عبد الله : وعن جميع أسارى المسلمين عندك .. قال : نعم .. فقبل رأسه .. ثم أطلقه مع الأسرى .. عجباً !! لله دره !! أين نحن اليوم من مثل هذا الثبات .. ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون .. إن من المسلمين اليوم .. من يتنازل عن دينه .. لأجل دراهم معدودات .. أو تتبع الشهوات .. أو الولوغ في الملذات .. ثم يختم له بالسوء والعياذ بالله .. * * * * * * * * * * ومن عدل الله تعالى أن العبد يختم له في الغالب على ما عاش عليه .. فمن كان في حياته يشتغل بالذكر والقيام .. والصدقات والصيام .. ختم له بالصالحات .. ومن تولى وأعرض عن الخير .. خشي عليه أن يموت على ما اعتاد عليه .. ولأجل هذا الفرق العظيم .. كان الصالحون يستعدون للموت قبل نزوله .. بل يغتنم أحدهم آخر الأنفاس واللحظات .. في التزود ورفع الدرجات .. فتجده يجاهد .. ويأمر بالمعروف .. وينهى عن المنكر .. ويشتغل بالطاعات .. إلى آخر نفس يتنفسه .. ثبت الصحيحين وغيرهما .. أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما رجع من حجة الوداع .. جعل مرض الموت يشتد عليه .. يوماً بعد يوم .. وهو في كلمة يتكلمها .. ونظرة ينظرها .. يودع هذه الدار .. ولما اشتدت عليه الحمى .. وأيقن النقلة للدار الأخرى .. أراد أن يودع الناس .. فعصب رأسه .. ثم أمر الفضل بن العباس أن يجمع الناس في المسجد .. فجمعهم .. فاستند صلى الله عليه وسلم إليه .. حتى رقى إلى المنبر .. ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد .. أيها الناس .. إنه قد دنى مني خلوف من بين أظهركم .. ولن تروني في هذا المقام فيكم .. ألا فمن كنت جلدت له ظهراً .. فهذا ظهري فليستقد منه .. ومن كنت أخذت له مالاً .. فهذا مالي فليأخذ منه .. ومن كنت شتمت له عرضاً .. فهذا عرضي فليستقد منه .. ولا يقولن قائل إني أخشى الشحناء .. ألا وإن الشحناء ليست من شأني .. ولا من خلقي .. وإن أحبكم إلي من أخذ حقاً .. إن كان له علي .. أو حللني فلقيت الله عز وجل .. وليس لأحد عندي مظلمة .. ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ..ومضى إلى بيته .. وبدأت الحمى تأكل جسده .. وهو يتحامل على نفسه ويخرج إلى الناس ويصلي بهم .. حتى صلى بأصحابه المغرب .. من يوم الجمعة .. ثم دخل بيته .. وقد اشتدت عليه الحمى .. فوضعوا له فراشاً فانطرح عليه .. وظل على فراشه تكوي الحمى جسده .. ثم ثقل به مرض الموت .. وهو على فراشه .. واجتمع الناس لصلاة العشاء .. وجعلوا ينتطرون إمامهم صلى الله عليه وسلم ليصلي بهم .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد هده المرض .. يحاول النهوض من فراشه .. فلا يقدر .. فأبطأ عليهم .. فجعل بعض الناس ينادي : الصلاة .. الصلاة .. فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى من حوله وقال : أصلى الناس ؟ قالوا : لا .. يا رسول الله .. هم ينتظرونك .. فإذا حرارة جسده صلى الله عليه وسلم تمنعه من النهوض .. فقال : صبوا لي ماء في المخضب .. وهو إناء كبير .. فصبوا له الماء .. وجعلوا يصبون الماء البارد من القرب .. فوق جسده .. فلما برد جسده .. وشعر بشيء من النشاط .. جعل يشير لهم بيده .. فأوقفوا الماء عنه .. فلما اتكأ على يديه ليقوم أغمي عليه .. فلبث ملياً .. ثم أفاق .. فكان أول سؤال سأله .. أن قال : أصلى الناس ؟ قالوا : لا .. يا رسول الله .. هم ينتظرونك .. قال : ضعوا لي ماء في المخضب .. فاغتسل .. وجعلوا يصبون عليه الماء .. حتى إذا شعر بشيء من النشاط .. أراد أم يقوم .. فأغمي عليه .. فلبث ملياً .. ثم أفاق .. فكان أول سؤال سأله .. أن قال : أصلى الناس ؟ قالوا : لا .. يا رسول الله .. هم ينتظرونك .. قال : ضعوا لي ماء في المخضب .. فوضعوا له الماء .. وجعلوا يصبون الماء البارد على جسده .. وأكثروا الماء .. حتى أشار لهم بيده .. ثم اتكأ على يديه ليقوم .. فأغمي عليه .. وأهله ينظرون إليه .. تضطرب أفئدتهم .. وتدمع أعينهم .. والناس عكوف في المسجد ينتظرونه .. فلبث مغمى عليه ملياً .. ثم أفاق .. فقال : أصلى الناس ؟ قالوا : لا .. هم ينتظرونك يا رسول الله .. فتأمل صلى الله عليه وسلم في جسده .. فإذا الحمى قد هدته هداً .. ذاك الجسد المبارك .. الذي نصر الدين .. وجاهد لرب العالمين .. ذلك الجسد .. الذي ذاق من العبادة حلاوتها .. ومن الحياة شدتها .. الجسد الذي تفطرت منه القدمان .. من طول القيام .. وبكت العينان .. من خشية الرحمن .. عذب في سبيل الله .. وجاع .. وقاتل .. لما رأى صلى الله عليه وسلم حاله .. وتمكن المرض مند جسده .. التفت إليهم وقال : مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس .. فيقيم بلال الصلاة .. ويتقدم أبو بكر .. في محراب النبي صلى الله عليه وسلم .. فيصلي بالناس .. ولا يكادون يسمعون قراءته من شدة بكائه وحزنه .. وانتهت صلاة العشاء .. ثم اجتمع الناس لصلاة الفجر .. فيصلي بهم أبو بكر .. ويجتمع الناس بعدها للصلوات .. ويصلي أبو بكر بهم .. أياماً .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم على فراشه .. فلما كانت صلاة الظهر أو العصر من يوم الاثنين .. وجد رسول صلى الله عليه وسلم خفة في جسده .. فدعا العباس وعليّاً .. فأسنداه عن يمينه ويساره .. ثم خرج يمشي بينهما .. تخط رجلاه في الأرض .. وكشف الستر الذي بين بيته وبين المسجد .. فإذا الصلاة قد أقيمت .. والناس يصلون .. فرأى أصحابه صفوفاً في الصلاة .. فنظر إليهم .. وجوه مباركة .. وأجسادٌ طاهرة .. ما منهم أحدٌ إلا وقد أصيب في سبيل الله .. منهم من قطعت يده .. ومنهم من فقئت عينه .. ومنهم من ملأت الجراحات جسده .. طالما صلى بهؤلاء الأخيار .. وجاهد معهم .. وجالسهم .. كم ليلة قامها وقاموها .. وأيام صامها وصاموها .. كم صبروا معه على البلاء .. وأخلصوا معه الدعاء .. كم فارقوا لنصرة دينه .. الأهل والإخوان .. وهجروا الأحباب والأوطان .. منهم من قضى نحبه .. ومنهم من ينتظر .. وما بدلوا تبديلاً .. ثم هاهو اليوم يفارقهم .. إلى تلك الدار .. التي طالما شوقهم إلى سكناها .. فلما رآهم في صلاتهم .. تبسم .. حتى كأن وجهه فلقة من قمر .. ثم أرخى الستر .. وعاد إلى فراشه .. وبدأت تصارعه سكرات الموت .. قالت عائشة : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت وعنده قدح فيه ماء .. فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء .. ثم يقول : لا إله إلا الله .. إن للموت سكرات .. وجعلت فاطمة تبكي وتقول : واكرب أبتاه .. فيلتفت إليها ويقول : ليس على أبيك كرب بعد اليوم .. فجعلت أمسح وجهه .. وأدعو له بالشفاء .. فقال : لا .. بل أسأل الله الرفيق الأعلى .. مع جبريل وميكائيل وإسرافيل .. ثم لما ضاق به النفس .. واشتدت عليه السكرات .. جعل يردد كلمات يودع بها الدنيا .. بل كان يتكلم فيما أهمه .. ويحذر من صور الشرك ويقول : " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " .. " اشتد غضب الله على قوم جعلوا قبور أنبيائهم مساجد " .. وكان من آخر ما قال صلى الله عليه وسلم : " الصلاة الصلاة .. وما ملكت أيمانكم " .. ثم مات صلى الله عليه وسلم .. نعم .. مات .. سيد المرسلين .. وإمام المتقين .. وحبيب رب العالمين .. مات وليس أحد يطالبه بمظلمة .. ولا آذى أحداً بكلمة .. لم يتدنس بأموال حرام .. ولا غيبة ولا آثام .. بل كان إلى الله داعياً .. ولعفو ربه راجياً .. يأمر بالصلاة وعبادة الرحمن .. وينهى عن الشرك والأوثان .. { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } .. * * * * * * * * * * أهلُ القبور إما معذبون أو منعّمون .. بل لعله في القبر الواحد دُفن عدة أشخاص .. هذا إلى الجنة وهذا إلى النار .. بل يا أُخَيَّ ..إن الأمر أعجب من ذلك .. لعل تحت قدميك الآن أقوام يُعذبون أو ينعمون .. بل لعل تحتك في غرفة نومك أقواما محبوسين في حفر من جهنم .. يعرضون على النار بكرة وعشياً .. من يدري فالناس كثير .. والأرض قد تضيق عنهم .. صاح هذي قبورنا تملأ الرحب * فأين القبور مـن عهد عاد خفف الوَطْء ما أظن أديم الأرض * إلا مـــن هذه الأجساد رُبَّ قبر قد صــار قبراً مراراً * ضاحكٍ من تزاحم الأضداد ودفين على رفـــات دفين * مــن قديم الزمان والآماد تعب كلها الحياة فـلا أعجب * إلا مــن راغب في ازدياد فأي عيش صفا وما كدّره الموت ؟ أي قدم سعت وما عثّرها الموت ؟ أما أخذ الآباء والأجداد ؟ أما سلب الحبيب وقطع الوداد ؟ أما أرمل النسوان .. وأيتم الأولاد ؟ عزاءٌ فما يصنع جازعُ ودمع الأسى أبد ضائعُ بكى الناس من قبل أحبابهم فهل منهم أحدٌ راجعُ فدلى ابن عشرين في قبره وتسعون صاحبها رافعُ يُسلِّم مهجته راغماً كما مدّ راحته البائعُ ولو أن من حدث سالما لما خسف القمر الطالع وكيف يوقّى الفتى ما يخاف إذا كان حاصده الزارع* * * * * * * * * * فالقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه فإن يكُ خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده وإن يكن شراً فما بعد أشدّ ويل لعبد عن سبيل الله صد * * * * * * * * * *
وليست المشكلة في الموت .. فالموت باب وكل الناس داخله ..
لكن المشكلة الكبرى .. والداهية العظمى ..
ما الذي يكون بعد الموت ..
أفي { جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر } ..
أم في { ضلال وسعر * يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسَّ سقر} ..
* * * * * * * * * *
ولأجل ذلك .. فالصالحون يشتاقون إلى لقاء ربهم .. ويعدون الموت جسراً يعبرون عليه
إلى الآخرة ..
نعم .. يفرحون بالموت ما دام يقربهم إلى ربهم ..
* * * * * * * * * *
بل كان الصالحون يفتنون في دينهم .. ويهددون بالموت .. فلا يلتفتون إليه ..
نفوسهم صامدة .. على غاية واحدة .. هي الموت على ما يرضي الله ..
فهم كما قال الله لهم : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ..
نعم .. ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ..
- لما ربط الكفار خبيب بن عدي رضي الله عنه على جذع نخلة ليقتلوه .. لم يفزع .. ولم
يجزع .. بل أخذ ينظر إليهم ويقول :
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمع إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي وما أرصد الأعداء لي عند مصرعي ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وان يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع - ولما دخل سعد بن أبي وقاص على ملك الفرس .. صرخ في وجهه وقال : جئتك بقوم يحبون الموت .. كما تحبون أنتم الحياة ..
- وفي معركة أحد يكثر القتل بالمسلمين .. وتتسابق سهام الكفار إلى رسول صلى الله عليه وسلم ..
فكان أبو طلحة رضي الله عنه يرفع صدره ويقول :
يا رسول الله لا يصيبك سهم .. نحري دون نحرك ..
نعم ما دام أن الموت في رضا الرحمن فمرحباً بالموت ..
* * * * * * * * * *
بل كانت المعاصي والشهوات .. والآثام والملذات ..
تعرض على الصالحين .. فلا يلتفتون إليها .. فيهددون بالموت .. فيختارونه .. فربهم
أعظم عندهم من كل شيء ..
ذكر ابن كثير وغيره :
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث جيشاً لحرب الروم ..
وكان من ضمن هذا الجيش .. شاب من الصحابة .. هو عبد الله بن حذافه رضي الله عنه ..
وطال القتال بين المسلمين والروم .. وعجب قيصرُ ملكُ الروم من ثبات المسلمين ..
وجرأتهم على الموت ..
فأمر أن يحضر إليه أسير من المسلمين ..
فجاءوا بعبد الله بن حذافة .. يجرونه .. الأغلال في يديه .. والقيود في قدميه ..
فأوقفوه أمام الملك ..
فتحدث قيصر معه فأعجب بذكائه وفطنته ..
فقال له : تنصر .. وأطلقك من الأسر ..
فقال عبد الله : لا ..
فقال قيصر : تنصر .. وأعطيك نصف ملكي ..
فقال : لا ..
فقال : تنصر .. وأعطيك نصف ملكي .. وأشركك في الحكم معي ..
فقال عبد الله : والله لو أعطيتني ملكك .. وملك آبائك .. وملك العرب والعجم .. على
أن أرجع عن ديني طرفة عين ما فعلت ..
فغضب قيصر .. وقال : أذن أقتلك ..
قال : اقتلني ..
فأمر قيصر به فسحب .. وعلق على خشبة ..
وجاء قيصر .. وأمر الرماة .. أن يرموا السهام حوله ولا يصيبوه ..
وهو في أثناء ذلك يعرض عليه النصرانية .. وهو يأبى .. وينتظر الموت ..
فلما رأى قيصر إصراره ..
أمر أن يمضوا به إلى الحبس ..
ففكوا وثاقه ومضوا به إلى الحبس .. وأمر أن يمنعوا عنه الطعام والشراب .. فمنعوهما
..
حتى إذا كاد أن يهلك من الظمأ والجوع ..
أحضروا له خمراً .. ولحم خنزير ..
فلما رآهما عبد الله .. قال : والله إني لأعلم أن ذلك يحل لي في ديني .. ولكني لا
أريد أن يشمت بي الكفار .. فلم يقرب الطعام ..
فأخبر قيصر بذلك .. فأمر له بطعام حسن ..
ثم أمر أن تدخل عليه امرأة حسناء تتعرض له بالفاحشة ..
فأدخلت عليه .. وجعلت تتعرض له وهو معرض عنها ..
وهي تتمايل أمامه ولا يلتفت إليها ..
فلما رأت المرأة ذلك .. خرجت غضبى وهي تقول :
والله لقد أدخلتموني على رجل .. لا أدري أهو بشر أم حجر ..
وهو والله لا يدري عني أأنا أنثى أم ذكر ..
فلما يئس منه قيصر .. أمر بقدر من نحاس .. فأغلي فيها الزيت ..
ثم أوقف عبد الله بن حذافة أمامها ..
وأحضروا أحد الأسرى المسلمين موثقاً بالقيود .. حتى ألقوه في هذا الزيت .. وغاب
جسده في الزيت .. ومات .. وطفت عظامه تتقلب في فوق الزيت ..
وعبد الله ينظر إلى العظام .. فالتفت قيصر إلى عبد الله .. وعرض عليه النصرانية ..
فأبى ..
فاشتد غضب قيصر .. وأمر بطرحه في القدر ..
فلما جروه إلى القدر .. وشعر بحرارة النار .. بكى .. ودمعت عيناه ..
ففرح قيصر .. وقال :
تتنصر .. وأعطيك .. وأمنحك ..
قال : لا ..
قال : إذاً .. لماذا بكيت ..
فقال عبد الله : أبكي لأنه ليس لي إلا نفس واحدة تلقى في هذا القدر .. فتموت ..
ولقد وددت والله أن لي مائة نفس كلها تموت في سبيل الله .. مثل هذه الموتة ..
فقال له قيصر : قبل رأسي وأخلي عنك ؟
فقال له عبد الله : وعن جميع أسارى المسلمين عندك ..
قال : نعم ..
فقبل رأسه .. ثم أطلقه مع الأسرى ..
عجباً !! لله دره !!
أين نحن اليوم من مثل هذا الثبات .. ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ..
إن من المسلمين اليوم .. من يتنازل عن دينه .. لأجل دراهم معدودات .. أو تتبع
الشهوات .. أو الولوغ في الملذات .. ثم يختم له بالسوء والعياذ بالله ..
* * * * * * * * * *
ومن عدل الله تعالى أن العبد يختم له في الغالب على ما عاش عليه ..
فمن كان في حياته يشتغل بالذكر والقيام .. والصدقات والصيام .. ختم له بالصالحات ..
ومن تولى وأعرض عن الخير .. خشي عليه أن يموت على ما اعتاد عليه ..
ولأجل هذا الفرق العظيم .. كان الصالحون يستعدون للموت قبل نزوله ..
بل يغتنم أحدهم آخر الأنفاس واللحظات .. في التزود ورفع الدرجات ..
فتجده يجاهد .. ويأمر بالمعروف .. وينهى عن المنكر .. ويشتغل بالطاعات .. إلى آخر
نفس يتنفسه ..
ثبت الصحيحين وغيرهما ..
أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما رجع من حجة الوداع ..
جعل مرض الموت يشتد عليه .. يوماً بعد يوم .. وهو في كلمة يتكلمها .. ونظرة ينظرها
.. يودع هذه الدار ..
ولما اشتدت عليه الحمى .. وأيقن النقلة للدار الأخرى ..
أراد أن يودع الناس ..
فعصب رأسه ..
ثم أمر الفضل بن العباس أن يجمع الناس في المسجد .. فجمعهم .. فاستند صلى الله عليه وسلم
إليه .. حتى رقى إلى المنبر .. ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال :
أما بعد ..
أيها الناس .. إنه قد دنى مني خلوف من بين أظهركم ..
ولن تروني في هذا المقام فيكم ..
ألا فمن كنت جلدت له ظهراً .. فهذا ظهري فليستقد منه ..
ومن كنت أخذت له مالاً .. فهذا مالي فليأخذ منه ..
ومن كنت شتمت له عرضاً .. فهذا عرضي فليستقد منه ..
ولا يقولن قائل إني أخشى الشحناء ..
ألا وإن الشحناء ليست من شأني .. ولا من خلقي ..
وإن أحبكم إلي من أخذ حقاً .. إن كان له علي ..
أو حللني فلقيت الله عز وجل .. وليس لأحد عندي مظلمة ..
ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ..ومضى إلى بيته .. وبدأت الحمى تأكل جسده .. وهو يتحامل
على نفسه ويخرج إلى الناس ويصلي بهم ..
حتى صلى بأصحابه المغرب .. من يوم الجمعة ..
ثم دخل بيته .. وقد اشتدت عليه الحمى .. فوضعوا له فراشاً فانطرح عليه ..
وظل على فراشه تكوي الحمى جسده ..
ثم ثقل به مرض الموت .. وهو على فراشه ..
واجتمع الناس لصلاة العشاء .. وجعلوا ينتطرون إمامهم صلى الله عليه وسلم ليصلي بهم ..
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد هده المرض .. يحاول النهوض من فراشه .. فلا يقدر .. فأبطأ
عليهم ..
فجعل بعض الناس ينادي : الصلاة .. الصلاة ..
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى من حوله وقال : أصلى الناس ؟
قالوا : لا .. يا رسول الله .. هم ينتظرونك ..
فإذا حرارة جسده صلى الله عليه وسلم تمنعه من النهوض ..
فقال : صبوا لي ماء في المخضب .. وهو إناء كبير ..
فصبوا له الماء .. وجعلوا يصبون الماء البارد من القرب .. فوق جسده ..
فلما برد جسده .. وشعر بشيء من النشاط .. جعل يشير لهم بيده .. فأوقفوا الماء عنه
..
فلما اتكأ على يديه ليقوم أغمي عليه ..
فلبث ملياً .. ثم أفاق .. فكان أول سؤال سأله .. أن قال :
أصلى الناس ؟
قالوا : لا .. يا رسول الله .. هم ينتظرونك ..
قال : ضعوا لي ماء في المخضب .. فاغتسل .. وجعلوا يصبون عليه الماء ..
حتى إذا شعر بشيء من النشاط .. أراد أم يقوم .. فأغمي عليه ..
فلبث ملياً .. ثم أفاق .. فكان أول سؤال سأله .. أن قال :
أصلى الناس ؟
قالوا : لا .. يا رسول الله .. هم ينتظرونك ..
قال : ضعوا لي ماء في المخضب .. فوضعوا له الماء .. وجعلوا يصبون الماء البارد على
جسده .. وأكثروا الماء .. حتى أشار لهم بيده .. ثم اتكأ على يديه ليقوم .. فأغمي
عليه ..
وأهله ينظرون إليه .. تضطرب أفئدتهم .. وتدمع أعينهم ..
والناس عكوف في المسجد ينتظرونه ..
فلبث مغمى عليه ملياً .. ثم أفاق ..
فقال : أصلى الناس ؟ قالوا : لا .. هم ينتظرونك يا رسول الله ..
فتأمل صلى الله عليه وسلم في جسده .. فإذا الحمى قد هدته هداً ..
ذاك الجسد المبارك ..
الذي نصر الدين .. وجاهد لرب العالمين ..
ذلك الجسد .. الذي ذاق من العبادة حلاوتها .. ومن الحياة شدتها ..
الجسد الذي تفطرت منه القدمان .. من طول القيام ..
وبكت العينان .. من خشية الرحمن ..
عذب في سبيل الله .. وجاع .. وقاتل ..
لما رأى صلى الله عليه وسلم حاله .. وتمكن المرض مند جسده .. التفت إليهم وقال :
مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس ..
فيقيم بلال الصلاة .. ويتقدم أبو بكر .. في محراب النبي صلى الله عليه وسلم .. فيصلي بالناس
.. ولا يكادون يسمعون قراءته من شدة بكائه وحزنه ..
وانتهت صلاة العشاء ..
ثم اجتمع الناس لصلاة الفجر .. فيصلي بهم أبو بكر .. ويجتمع الناس بعدها للصلوات ..
ويصلي أبو بكر بهم .. أياماً .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم على فراشه ..
فلما كانت صلاة الظهر أو العصر من يوم الاثنين .. وجد رسول صلى الله عليه وسلم خفة في
جسده .. فدعا العباس وعليّاً .. فأسنداه عن يمينه ويساره ..
ثم خرج يمشي بينهما .. تخط رجلاه في الأرض ..
وكشف الستر الذي بين بيته وبين المسجد .. فإذا الصلاة قد أقيمت .. والناس يصلون ..
فرأى أصحابه صفوفاً في الصلاة .. فنظر إليهم ..
وجوه مباركة .. وأجسادٌ طاهرة ..
ما منهم أحدٌ إلا وقد أصيب في سبيل الله .. منهم من قطعت يده ..
ومنهم من فقئت عينه .. ومنهم من ملأت الجراحات جسده ..
طالما صلى بهؤلاء الأخيار .. وجاهد معهم .. وجالسهم ..
كم ليلة قامها وقاموها .. وأيام صامها وصاموها ..
كم صبروا معه على البلاء .. وأخلصوا معه الدعاء ..
كم فارقوا لنصرة دينه .. الأهل والإخوان .. وهجروا الأحباب والأوطان ..
منهم من قضى نحبه .. ومنهم من ينتظر .. وما بدلوا تبديلاً ..
ثم هاهو اليوم يفارقهم .. إلى تلك الدار .. التي طالما شوقهم إلى سكناها ..
فلما رآهم في صلاتهم ..
تبسم .. حتى كأن وجهه فلقة من قمر ..
ثم أرخى الستر .. وعاد إلى فراشه .. وبدأت تصارعه سكرات الموت ..
قالت عائشة :
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت وعنده قدح فيه ماء .. فيدخل يده في القدح ثم يمسح
وجهه بالماء .. ثم يقول : لا إله إلا الله .. إن للموت سكرات ..
وجعلت فاطمة تبكي وتقول : واكرب أبتاه .. فيلتفت إليها ويقول : ليس على أبيك كرب
بعد اليوم ..
فجعلت أمسح وجهه .. وأدعو له بالشفاء ..
فقال : لا .. بل أسأل الله الرفيق الأعلى .. مع جبريل وميكائيل وإسرافيل ..
ثم لما ضاق به النفس .. واشتدت عليه السكرات .. جعل يردد كلمات يودع بها الدنيا ..
بل كان يتكلم فيما أهمه ..
ويحذر من صور الشرك ويقول :
" لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " ..
" اشتد غضب الله على قوم جعلوا قبور أنبيائهم مساجد " ..
وكان من آخر ما قال صلى الله عليه وسلم : " الصلاة الصلاة .. وما ملكت أيمانكم " ..
ثم مات صلى الله عليه وسلم .. نعم ..
مات .. سيد المرسلين .. وإمام المتقين .. وحبيب رب العالمين ..
مات وليس أحد يطالبه بمظلمة .. ولا آذى أحداً بكلمة ..
لم يتدنس بأموال حرام .. ولا غيبة ولا آثام ..
بل كان إلى الله داعياً .. ولعفو ربه راجياً ..
يأمر بالصلاة وعبادة الرحمن .. وينهى عن الشرك والأوثان ..
{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف
رحيم } ..
* * * * * * * * * *
أهلُ القبور إما معذبون أو منعّمون ..
بل لعله في القبر الواحد دُفن عدة أشخاص .. هذا إلى الجنة وهذا إلى النار ..
بل يا أُخَيَّ ..إن الأمر أعجب من ذلك ..
لعل تحت قدميك الآن أقوام يُعذبون أو ينعمون ..
بل لعل تحتك في غرفة نومك أقواما محبوسين في حفر من جهنم ..
يعرضون على النار بكرة وعشياً ..
من يدري فالناس كثير .. والأرض قد تضيق عنهم ..
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب * فأين القبور مـن عهد عاد
خفف الوَطْء ما أظن أديم الأرض * إلا مـــن هذه الأجساد
رُبَّ قبر قد صــار قبراً مراراً * ضاحكٍ من تزاحم الأضداد
ودفين على رفـــات دفين * مــن قديم الزمان والآماد
تعب كلها الحياة فـلا أعجب * إلا مــن راغب في ازدياد
فأي عيش صفا وما كدّره الموت ؟
أي قدم سعت وما عثّرها الموت ؟
أما أخذ الآباء والأجداد ؟ أما سلب الحبيب وقطع الوداد ؟
أما أرمل النسوان .. وأيتم الأولاد ؟
عزاءٌ فما يصنع جازعُ ودمع الأسى أبد ضائعُ
بكى الناس من قبل أحبابهم فهل منهم أحدٌ راجعُ
فدلى ابن عشرين في قبره وتسعون صاحبها رافعُ
يُسلِّم مهجته راغماً كما مدّ راحته البائعُ
ولو أن من حدث سالما لما خسف القمر الطالع
وكيف يوقّى الفتى ما يخاف إذا كان حاصده الزارع* * * * * * * * * *
فالقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه
فإن يكُ خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّ ويل لعبد عن سبيل الله صد
* * * * * * * * * *