هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
بحـث
نتائج البحث
بحث متقدم
المواضيع الأخيرة
شرح الطرق المختلفة للربح من الانترنتالخميس يوليو 30, 2020 2:07 pmHarmman420
نصائح لربح المال من الإنترنتالإثنين يوليو 20, 2020 3:33 pmHarmman420
ماهي افضل تمارين تقسيم البطن في شهر ؟الخميس مارس 15, 2018 1:40 pmHarmman420
مادة الليكوبين وفوائدها الثلاثاء يناير 09, 2018 6:47 pmHarmman420
وأما بنعمة ربك فحدث / د.أحمد عمارةالأحد سبتمبر 17, 2017 10:35 pmHarmman420
full body workout programالجمعة ديسمبر 11, 2015 10:39 pmHarmman420
كتاب : اجعلني مليونير make me a MILLIONAIRE السبت فبراير 21, 2015 7:49 pmHarmman420
د. أحمد عمارة \ لاتحزن الإثنين أكتوبر 13, 2014 6:24 pmHarmman420
قوة العطاء الإثنين أكتوبر 13, 2014 5:57 pmHarmman420
فيديو تحفيزي لبناء الطاقة الإيجابيةالثلاثاء سبتمبر 23, 2014 5:25 amHarmman420
كيف تحل مشاكلك بسهولة الثلاثاء سبتمبر 23, 2014 5:12 amHarmman420
أهمية الخيال في تغيير الواقعالثلاثاء سبتمبر 23, 2014 5:07 amHarmman420
هل يجب بناء العضلات للدفاع عن النفس ؟الأربعاء سبتمبر 10, 2014 4:36 amHarmman420
كيف تشعر بالراحة ؟السبت أغسطس 23, 2014 6:45 pmHarmman420
الإدراك ، وجود الله ، وعدالة الله الجمعة يوليو 25, 2014 5:17 pmHarmman420
نصدق من ؟ كيف نثق بكلامهم ؟الثلاثاء يوليو 22, 2014 4:41 pmHarmman420

Harmman420
Harmman420
الإدارة
عدد المساهمات : 3342
تاريخ التسجيل : 23/08/2009
العمر : 34
https://khawlacreepa.yoo7.com
13082011
اللغز
كل منا يحمل جثته على كتفيه..
ليس هناك أغرب من الموت..
إنه حادث غريب..
أن يصبح الشيء .. لا شيء..
ثياب الحداد .. و السرادق .. و الموسيقى .. و المباخر .. و الفراشون بملابسهم المسرحية : و نحن كأننا
نتفرج على رواية .. و لا نصدق و لا أحد يبدو عليه أنه يصدق..
حتى المشيعين الذين يسيرون خلف الميت لا يفكرون إلا في المشوار.
و أولاد الميت لا يفكرون إلا في الميراث.
و الحانوتية لا يفكرون إلا في حسابهم.
و المقرئون لا يفكرون إلا في أجورهم..
و كل واحد يبدو أنه قلق على وقته أو صحته أو فلوسه..
و كل واحد يتعجل شيئاً يخشى أن يفوته .. شيئاً ليس الموت أبداً.
إن عملية القلق على الموت بالرغم من كل هذا المسرح التأثيري هي مجرد قلق على الحياة..
لا أحد يبدو أنه يصدق أو يعبأ بالموت .. حتى الذي يحمل النعش على أكتافه.
الخشبة تغوص في لحم أكتافه .. و عقله سارح في اللحظة المقبلة و كيف يعيشها..
الموت لا يعني أحداً .. و إنما الحياة هي التي تعني الكل.
نكتة.. !
من الذي يموت إذاً ؟..
الميت ؟..
و حتى هذا .. لا يدري مصيره..
إن الجنازة لا تساوي إلا مقدار الدقائق القليلة التي تعطل فيها المرور و هي تعبر الشارع..

و هي عطلة نتراكم فيها العربات على الجانبين .. كل عربة تنفخ في غيرها في قلق . لتؤكد مرة أخرى
أ?ا تتعجل الوصول إلى هدفها .. و أ?ا لا تفهم .. هذا الشيء الذي اسمه الموت.
ما الموت .. و ما حقيقته..
و لماذا يسقط الموت من حسابنا دائماً . حتى حينما نواجهه.
* * *
لأن الموت في حقيقته حياة.
و لأنه لا يحتوي على مفاجأة..
و لأن الموت يحدث في داخلنا في كل لحظة حتى و نحن أحياء..
كل نقطة لعاب .. و كل دمعة .. و كل قطرة عرق .. فيها خلايا ميتة .. نشيعها إلى الخارج دون
احتفال..
ملايين الكرات الحمر تولد و تعيش و تموت .. في دمنا .. دون أن ندري عنها شيئاً .. و مثلها الكرات
البيض .. و خلايا اللحم و الدهن و الكبد و الأمعاء .. كلها خلايا قصيرة العمر تولد و تموت و يولد
غيرها و يموت .. و تدفن جثثها في الغدد أو تطرد في الإفرازات في هدوء و صمت .. دون أن نحس أن
شيئاً ما قد يحدث.
مع كل شهيق و زفير .. يدخل الأكسجين .. مثل البوتوجاز إلى فرن الكبد فيحرق كمية من اللحم و
يولد حرارة تطهي لنا لحماً آخر جديداً نضيفه إلى أكتافنا.
هذه الحرارة هي الحياة..
و لكنها أيضاً احتراق .. الموت في صميمها .. و الهلاك في طبيعتها.
أين المفاجأة إذن و كل منا يشبه نعشاً يدب على الساقين .. كل منا يحمل جثته على كتفيه في كل لحظة
..
حتى الأفكار تولد و تورق و تزدهر في رؤوسنا ثم تذبل و تسقط .. حتى العواطف .. تشتعل و تتوهج
في قلوبنا ثم تبرد .. حتى الشخصية كلها تحطم شرنقتها مرة بعد أخرى .. و تتحول من شكل .. إلى
شكل..
إننا معنوياً نموت و أدبياً نموت و مادياً نموت في كل لحظة.

و لماذا يبدو لنا هذا الحديث .. غير معقول , غير قابل للتصديق.
و لماذا نقف مشدوهين أمام الحادث نكذّب عيوننا .. و نكذّب حواسنا و نكذّب عقولنا .. ثم نمضي ..
و قد أسقطنا كل شيء من حسابنا .. وصرفنا النظر .. و اعتبرنا ما كان .. واجباً .. و لباقة . و مجاملة
.. أديناها و انتهينا منها.
لماذا لا نحمل هذا الحادث على محمل الجد..
ولماذا نرتجف من الرعب حينما نفكر فيه .. و تنخلع قلوبنا حينما نصدقه و تضطرب حياتنا حينما ندخله
في حسابنا و نضعه موضع الاعتبار.
السبب أنه الحادث الوحيد المصحوب برؤية مباشرة .. فما يحدث داخلنا من موت لا نراه .. لا نرى
كرات الدم و هي تولد و تموت .. لا نرى الخلايا و هي تحترق .. لا نرى صراع الميكروبات و هي
تقتلنا و نقتلها..
و خلايانا لا ترى نفسها و هي تفنى..
كل ما يحدث في داخلنا يحدث في الظلام .. و نحن ننام ملء جفوننا و قلوبنا تدق بانتظام و تنفسنا يتردد
في هدوء.
الموت يسترق الخطى كاللص تحت جنح الليل .. و يمشي على رؤوسنا فتبيض له شعراتنا .. شعرة ..
شعرة .. دون أن نحس .. لأن دبيبه و هو يمشي هو دبيب الحياة نفسها.
إن أوراق الشجر تتساقط و لكن الشجرة تظل مائلة للعيان دائمة الخضرة دائمة الازدهار .. تظل هكذا
حتى ?ب عاصفة تخلعها من جذورها وتلقي ?ا في عرض الطريق..
و حينئذ فقط يبدو منظرها قاتماً يبعث على التشاؤم .. تبدو فروعها معروفة عارية .. و جذورها نخرة ..
و أوراقها مصفرة..
لقد انتهت .. لم تعد شجرة .. أصبحت شيئاً آخر .. أصبحت خشباً.
و هذا ما يحدث .. حينما نشاهد الإنسان و هو يسقط جثة هامدة.
إنه يبدو شيئاً آخر و يبدو الحادث الذي حدث فجأة .. حادثاً غريباً بلا مقدمات..
لقد انتهى الإنسان كله فجأة..
و يبدأ العقل في التساؤل..
هل أنتهي أنا أيضاً كلي فجأة كما انتهى ذلك الإنسان .. و كيف و لا شيء في إحساسي يدل على
هذه النهاية أبداً.
كيف يحدث هذا .. و أنا جياش بالرغبة . ممتلئ بالإرادة .. بل أنا الامتلاء نفسه.

كيف يتحول الامتلاء إلى فراغ .. و فجوة.
أنا .. أنا ؟ .. !الذي أحتوي على الدنيا .. كيف أنتهي هكذا و أصبح شيئاً تحتوي عليه الدنيا.
أنا ؟..
إن كلمة .. أنا .. كلمة كهربائية .. إ?ا كالضوء أرى ?ا كل شيء .. و لا يستطيع شيء أن يراها ..
إ?ا أكبر من أي كلمة أخرى و أكبر من أي حقيقة .. لأن ?ا تكون الحقائق حقائق..
إ?ا فوق كل شيء و فوقي أنا أيضاً لأ?ا تراني و تشعر بي..
إ?ا مصدر الإشعاع كله .. و حيث يتمثل لي هذا المنظر المفجع الذي يلقى فيه الإنسان مصرعه .. فهي
فوق هذا المنظر أيضاً .. لأ?ا تراه .. و فوق الطبيعة .. و فوق قوانينها .. و فوق ظواهرها.
أنا الموت..!
من أنا
ومن هذا الذي مات..
إنه بعض مني .. منظر ملايين المناظر الذي تعبر خاطري . فكيف أموت أنا أيضاً..
إن التساؤل ما يلبث أن يتحول على تمزق فظيع يحطم فيه المنطق نفسه بنفسه .. و يصطدم باستحالات لا
حل لها..
و هكذا تبدأ المشكلة الأزلية..
لغو الموت..
إن مصدر اللغز هو هذا الموقف الذي ينتقل فيه العقل من رؤية مباشرة للموت إلى استنتاج مباشر عن
موته هو أيضاً .. و هو أبو الأشياء .. و نظامها .. و تفسيرها .. و نورها.
و لكنه يعود فيقول:
لا..
إن الذين يموتون هم الآخرون.
إن التاريخ كله لا يروي قصة واحدة عن موت ال .. أنا..
إن الموضوعات تتغير و تتبدل و تولد و تذبل و تموت و الآخرون يموتون.
أنا أنا .. هذه ال أنا .. لا توجد سابقة واحدة عن مو?ا.
أنا من مادة أخرى غير كل هذه الموضوعات .ز و لهذا أمسك ?ا و أتناولها و أفهمها .. و لا أستطيع أن
أمسك بنفسي و أنا أتناولها و أفهمها.

أنا فوق متناول الجميع .. و فوق متناولي أنا أيضاً .. و فوق متناول القوانين و الظواهر..
هناك حلقة مفقودة..
و هي تفتح باباً تدخل منه الفلسفة .. و يتسلل منه الفكر .. و لكنه باب ضيق .. ضيق جداً .. يؤدي
إلى سراديب أغلبها مغلقة و رحلة الفكر في هذه السراديب مخيفة مزعجة و لكنها تثير الاهتمام.
و أي شيء يبعث الاهتمام أكثر من الحياة .. والمصير .. و من أين .. و إلى أين .. و كيف.


عملية تهريب
الحب قصة جميلة .. الموت مؤلفها..

الحياة حرارة .. و احتراق .. الموت نسيجها .. و الهلاك صميمها.
أجسادنا تتساقط و هي تمشي .. في كل لحظة هناك شيء يتساقط منها..
و كلما حياتنا كلما تآكلت في نفس الوقت..
العدم كامن في الوجود .. كامن في أجسادنا .. كامن في إحساساتنا و مشاعرنا..
الخوف .. الشك .. التردد .. القلق .. الكسل .. التراخي .. اليأس .. القنوط .. كل هذه علامات
سكون في الشعور .. كلها إحساسات عدمية تفسيرها الوحيد أن هناك فجوة في تكويننا .. فجوة نراها
بعين الشعور فنخاف و نجزع و نقلق..
فجوة نطل عليها من داخلنا و إن كنا لا نراها بعيننا الواعية .. و لا نتذكرها إلا حينما يقال لنا .. فلان
مات.
مات .. ؟! مات ازاي ده كان لسه سهران معانا امبارح لنص الليل .. شيء عجيب..
و نمصمص شفاهنا .. ثم ننسى كل شيء و نعود إلى حياتنا الآلية .. و لكن عيننا الداخلية تظل مطلة
على هذه الفجوة .. و باطننا يظل يرتجف ?ذا القلق المبهم..
الموت بالنسبة لكل منا .. أزمة .. و سؤال .. يبعث على الدهشة و القلق .. والذعر.
و لكنه بالنسبة للكون شيء آخر.
إنه بالنسبة للكون ضرورة و فضيلة .. و خير..
الموت و الحياة حينما ننظر لهما من بعيد .. و هما يعملان في الكون يظهران و هما يخلقان الواقع.
الموت يبدو مكملاً للحياة .. يبدو كالبستاني الذي يقتلع النباتات الفاسدة و يسوي الأرض و يحرثها
ليفسح المجال للبذور الصغيرة الرقيقة لتطرح ثمارها.
يبدو كالرسام الذي يمحو بفرشاته خطاً ليثبت على اللوحة خطاً جديد أفضل منه.
يبدو خالقاً في ثوب هدام .. فهو يهدم حائط الجسد .. لأن خلف الحائط يوجد ماء الحياة الجاري.
حاول أن تتخيل الدنيا بلا موت .. الدنيا من أيام آدم .. و المخلوقات و هي تتراكم فيها .. و لا تموت

الناس .. و الذباب .. و الضفادع .. و الحشائش .. و الديدان .. و هي تتراكم .. و يصعد بعضها على
أكتاف بعض .. حتى تسد عين الشمس..
إن الحياة تبدو شيئاً كالاختناق..
إن الكائن الحي يحب نفسه فقط .. و يحب اللحظة الصغيرة التي يعيشها و لهذا يكره الموت .. و لكن
الموت يحب كل اللحظات و يحب الزمن .. و يحب المستقبل .. و لهذا يتساقط الناس من غرباله كالنشارة
ليقوم على أشلائهم ناس آخرون أحسن منهم و هكذا دواليك.
الموت هو عملية المونتاج التي تعمل في الشريط الوجودي كله فتقصه إلى عدة لقطات واقعية .. كل منها
له عمر محدود..
و الموت يخلق واقع الأشياء الجامدة أيضاً كما يخلق واقع المخلوقات الحية.
الأشياء الجامدة لها ?اية .. و العين تدركها لأن لها ?اية .. ?اية في الطول و العرض و العمق .. و لو
كانت لا ?ائية في طولها و عرضها و عمقها لاختفت .. و لأصبحت عالية في الإدراك .. غير موجودة
..
إن التناهي هو الذي يوجدها..
و التناهي هو الموت.
كل ما في الكون من إنسان و حيوان و نبات و جماد إذن متناهٍ له حدود .. الموت يأكل أطرافه .. و
يقص حواشيه .. و يبرزه .. و يوجده و يخلقه في نفس الوقت..
الموت فضيلة و خير بالنسبة للكون كله لأن به تكون الأشياء موجودة و تكون المخلوقات مضطربة
بالشعور و الحياة.
و لكنه شر الرذائل بالنسبة للإنسان الفرد .. بالنسبة لك أنت .. و لي أنا .. لأنه ينفقنا كضرائب إنشاء
و تعمير .. و يقدمنا قرابين على مذبح الوجود.
و نحن لا نفهم هذا النوع من القربان .. و لا نستطيع أن نفهمه لأنه قربان فظيع .. و تضحية معناها أن
نموت و نهلك.
نحن نعيش في مأساتنا الشخصية .. و نرى الموت كفجوة تفغر فاها تحت أقدامنا فنتشبث بأي شيء نجده
حولنا .. و نتشبث ?ا و نحتمي من الجرف الذي ينهار تحتنا.

إن الحب كله قصة جميلة .. مؤلفها الموت نفسه .. و ليس الحب فقط .. بل كل العواطف و التروات و
المخاوف و الآمال و شطحات الخيال و الفكر و الفن و الأخلاق .. كل هذه القيم العظيمة تدين
للموت بوجودها.
أعطني أي مثال أخلاقي .. و أنا أكشف لك عن الموت في مضمونه.
الشجاعة قيمتها في أ?ا تتحدى الموت.
و الإصرار قيمته في أنه يواجه الموت .. و هكذا كل مثل أخلاقي .. قوته في أنه يواجه مقاومة .. و هو
ينهار .. و ينهار مضمونه حينما لا تكون هناك مقاومة في مواجهته.
الفنان و الفيلسوف و رجل الدين ثلاثة يقفون على بوابة الموت..
الفيلسوف يحاول أن يجد تفسيراً..
و رجل الدين يحاول أن يجد سبيلاً للاطمئنان..
و الفنان يحاول أن يجد سبيلاً إلى الخلود .. يحاول أن يترك مولوداً غير شرعي على الباب يخلد اسمه ..
قطعة موسيقية أو تمثالاً أو قصة أو قصيدة.
كلنا يخلقنا الموت .. الموت المدهش.
لو لم نكن نموت لما شعرنا بالحب .. فما الحب إلا هيستريا التشبث و التعلق بالحياة .. و محاولة ?ريبها
كالمخدرات في بطون الأمهات.
و ما الداعي إلى أخلاق في مجتمع من الخالدين .. إن الأخلاق هي الخرسانة و المسلح الذي ندعم به
بيوتنا المنهارة .. و نمسك به هياكلنا الفانية .. فإذا كنا من الخالدين لا نمرض و لا نموت و لا نضعف و
لا يصيبنا شر فما لزوم الأخلاق.
إن كل ما هو جميل و خير و حسن في مجتمعنا خارج من هذه الفجوة .. الموت.
و كل ما هو جميل في إنسانيتنا خارج من هذه الفجوة أيضاً.
إن حياتنا غير منفصلة عن موتنا .. فكل منهما مشروط بالآخر.
و الأصدق أن نقول أنه لا توجد حالتان .. حياة و موت .. و لكن حالة واحدة هي الصيرورة .. حالة
متناقضة في داخلها و محتوية على الاثنين معاً : الحياة و الموت..
حالة متحركة نابضة صائرة من حياة إلى موت و من موت إلى حياة و في كل لحظة منها تحمل
الجرثومتين , جرثومة نموها و جرثومة فنائها في نفس الوقت.

و هما جرثومتان لا هدنة بينهما .. و لا تعادل و إنما صراع و توتر و تمزق و شرر متطاير مثل الشرر
الذي يتطاير من قطبي الكهرباء السالب و الموجب حينما يلتقيان .. و هما مثلهما أيضاً .. تبعثان حرارة
و نوراً .. هما العاطفة و الوعي اللذان يندلعان في عقل الإنسان الذي يعيش هذا الصراع بسالبه و موجبه
..
و هو الصراع يبدو فيه العنصر الموجب أقوى من السالب .. و تبدو الحياة غلابة صاعدة منتصرة..
* * *
كلام جميل .. و لكنه مع هذا كله لا يجعل الموت جميلاً في عيوننا.
إنه يفشل حتى في الاعتذار لنا .. حتى و لو كانت في صالح الكون .. فمالنا و
الكون .. نحن كون في ذاتنا .. وملك الموت يأخذها منا , نفوسنا .. أنا .. و أنت.
إن أجمل اللحظات في حياتي هي التي أقول فيها .. أنا فعلت .. أنا قدمت .. أنا أنجزت .. أنا اخترعت
..أنا .. أنا..
لا يوجد شيء في وجودي .. أو وجودك .. أغلى من هذه الكلمة الصغيرة .. أنا .. فكيف يمكن أن
أتصور أن أموت..
إني أستطيع إحداث الموت .. أستطيع أن أقتل و أن أنتحر..
كيف يكون الموت أحد اختراعاتي ؟؟ ز أكون أنا أحد ضحاياه في نفس الوقت.
أين اللغز الحقيقي .. أهو الموت .. أم هو هذه الكلمة الصغيرة .. أنا ؟..

أنا
أنا من الخارج لي حدود لي سقف

ينتهي عنده جسدي .. و لكني من
الداخل بلا سقف ...
و لا قاع...
أنا .. كلمة ظريفة .. لا يوجد أظرف منها في الدنيا .. إ?ا أغنية..
إ?ا تدخل في أي جملة فتجعلها جملة مفيدة مهمة .. و تدخل في أي موضوع فتجعله موضوع الساعة ..
لأنه أصبح موضوعي أنا .. و فلوسي أنا .. و حبيبي أنا .. و روحي أنا .. و روحي أنا .. و قلبي أنا ؟
و لكن أنا .. ؟ .. من أنا .. ؟
هل حاول أحدكم أن يسأل نفسه هذا السؤال..
من أنا ؟..
أنا فلان .. فلان أيه .. فلان ابن فلان .. يعني أيه .. مجرد ألفاظ .. مجرد رموز أو إشارات تدل على
حقيقتي .. طيب و أيه هي حقيقتي ؟..
وهنا يبدأ اللغز.
ما هي حقيقتي ؟..
إني أحاول أن أمسك بوجودي وأكتشفه و أفحصه كما أفحص هذه المحبرة فأجد أنه لا وجود بلا قاع
.. وجود مفتوح من الداخل على إمكانيات لا اية لها .. و ألقي بحصاة في هذا البئر الداخلي فلا أسمع
?ويهوي إلى أعماق بلا آخر..
أنا من الخارج لي حدود .. ينتهي طولي عند 170 سنتيمتر..

لي سقف ينتهي جسدي عنده .. و لكني من الداخل بلا سقف و بلا قعر .. و إنما أعماق تؤدي إلى
أعماق .. و أفكار و صور و أحاسيس و رغبات لا تنتهي أبداً إلا لتبدأ من جديد كأ?ا متصلة بينبوع لا
?ائي .. و هي أعماق في تغير دائم و تبدل دائم .. بعضها يطفو على السطح فيكون شخصيتي و بعضها
ينتظر دوره في الظلام..
و أنا في الخارج أتبدل أيضاً .. الواقع يكشط هذه القشرة التي تطفو خارجي فتطفو قشرة أخرى من
عقلي الباطن محلها..
و كلما أمسكت بحالة من حالاتي و قلت هذا هو أنا .. ما تلبث هذه الحالة أن تفلت من أصابعي و تحل
محلها حالة أخرى .. هي أنا .. أيضاً..
شيء محير..!!
و أنظر حولي في العالم .. فأجد أني أعوم في هذا العالم كما تعوم البطة في الماء .. تجدف فيه بريشها ولا
تبتل و إنما يترلق من عليها الماء كأنه من عنصر آخر غريب عنها..
أنا متصل بالعالم منفصل عنه في نفس الوقت..
إنه يدخل في تكويني بحكم المسكن و المأكل و المشرب و الاتصال بالآخرين .. و لكنه غير ملتصق بي ..
إنه يذكي شعوري و يثير اهتمامي فقط .. و بمقدار اهتمامي أظل على علاقة به فإذا انتهى اهتمامي
نفضته تماماً كما تنفض البطة الماء من ريشها حينما تصل إلى الشاطئ..
إني أحتضن العالم باختياري و أخلع عليه اهتمامي و شخصيتي و أتبناه و أظل مصاحباً له طالما هو .. أنا
.. فإذا انتهت هذه العلاقة الأنانية .. عدت إلى نفسي..
و لكني لا أنجو مع هذا من الابتذال .. و التردي في هوة الناس..

العالم يبتذلني أحياناً فأذوب فيه بعض الوقت .. أفعل ما يطلبه مني رئيس تحرير ا?لة التي أعمل ?ا و
أؤدي ما يطلبه مني مدير المستشفى الذي أشتغل فيه طبيباً..
و أخضع لروتين العادة و العرف و ا?املات و أضيع نفسي في الثرثرة و أختبئ وراء المشاكل اليومية ..
و أتستر خلف الناس .. و أقول و أنا مالي .. هم عاوزين مني كده .. الدنيا كلها بتعمل كده..
و في هذه الحالات تضيع مني نفسي .. تضيع مني .. أنا .. و أصبح موضوعاً من الموضوعات مثل
الكرسي و الشجرة و الكتاب .. و أفقد الشيء البكر الذي يميزني عن كل شيء .. و يجعل مني نسيجاً
وحده .. يجعل مني .. أنا .. فلان الفلاني..
هذه أوقات لا أحس ?ا .. و إنما تبدو ممسوحة و مشطوبة من حياتي .. تبدو فترات موت..
حريتي تعذبني .. لأني حينما أختار .. أتقيد باختياري .. و تتحول حريتي إلى عبودية و مسؤولية .. و
هي مسؤولية لا ينفع فيها إعفاء لأ?ا مسؤولية أمام نفسي .. أما الاختيار الذي اخترته أنا..
و ليس أمامي سبيل غير أن اختار .. لا بد أن أختار في كل لحظة .. فإذا أضربت عن الاختيار .. كان
إضرابي نوعاً من الاختيار .. على أن أدفع ثمناً فوراً..
و حبي يعذبني لأني أريد أن أمتلك محبوبتي و أذيبها في داخلي و أشرب شخصيتها و روحها و جسدها
..أريد أن أحولها إلى .. أنا .. و هذا مستحيل لأ?ا هي الأخرى لها .. أنا .. وذات حرة مثلي..
إن كل ما نستطيعه هو أن نتعانق و تتلامس شفاهنا .. و تتلامس حقائقنا و أسرارنا في لحظات مضيئة
.. ثم نمضي إلى حالنا .. كل واحد مغلق على سره.
إن كل ما نملكه هو أن نفتح نوافذنا على الخارج , و لكننا لا نستطيع أن ننقل عفشنا .. و نسكن بيتاً
جديداً.
إن روحنا سر .. و ذواتنا قدس الأقداس..



إن الله يضع كل جنده على باب ذاتنا كما يقول طاغور .. و لا يسمح لأحد منهم بالدخول فيها ..
لأ?ا حرم .. حرمها على الكل .. و خلقها حرة كالطائر الغرد..
* * *
ماذا هناك .. ماذا وراء الباب..
ماذا بداخلي..
إرادة . إرادة لا ?ائية لا حد لها إلا نفسها .. إرادة حرة خالقة مبدعة .. تنبثق في بداءة و فطرة ..
أحسها و لا أعرفها أكابدها و لا أفهمها .. لأ?ا تفر مني كلما حاولت فهمها كما يفر النوم من عيني
كلما حاولت أن أتعمقه و أحلله .. و ربما كان السبب أ?ا أصيلة .. أكثر أصالة من العقل و التفكير و
لا يمكن أن تكون موضوعاً للعقل و التفكير .. بل العكس هو المقبول .. أن يكون العقل موضوعها و
خادمها .. و سبيلها إلى بلوغ أهدافها..
أنا أريد .. و العقل يبرر لي ما أريد .. و ليس العكس أبداً
إن كل شيء خاضع للإرادة .. ثانوي بالنسبة لها..
في لحظات إبداعي و خلقي .. في اللحظات التي أحس فيها أني أخلق نفسي و أخلق الأفكار و القيم و
أكتشف العالم و أصنع المعقولات أحس أني أدفع العالم كله أمامي .. أدفعه كالعربة..
و في اللحظات التي أموت فيها و أسقط في هوة العادة و التكرار و التقليد و ا?املات و الروتين .. و
تضيع إرادتي من يدي .. أحس بأن العالم كله يدفعني أمامه كالعربة..
أحس أن إرادة حصان في الطريق يمكنها أن تعدل في طريقي و تغير سكّتي..

لا شيء في الدنيا أكبر من الإرادة..
الظروف المالية .. و البيئة و الوراثة .. لا تلغي الإرادة و لا تمحو الحرية أبداً .. و لكنها تؤثر فيها ..
تؤثر في الكيفية التي تعلن ?ا عن نفسها..
أنا و الظروف نتصارع في لحظة الفعل فقط .. و لكن كلاً منا له وجوده البكر.
أنا حر و أرادتي حقيقة .. تماماً كما أن الظروف موجودة و حقيقية.
و لكن ما الإرادة ؟..
لا توجد كلمة تصفها أو تشرحها .. لأ?ا أكبر من كل الكلمات و لأ?ا تحتوي على كل الكلمات و
تتجاوزها .. فكل وصف يبدو حيالها ناقصاً .. إ?ا كالشوق لا يوصف و إنما يكابد..
إ?ا تنطبق عليها كلمة المتصوف الصالح أبو البركات البغدادي : أظهر من كل ظاهر و أخفى من كل
خفي..
إن أحسن طريق لمعرفتها هي أن تباشرها .. فهي المفتاح السحري الذي تفتح به الكون كله..
و لكن هناك أسئلة تتوارد على خاطرنا..
هل الإرادة موجودة في الزمان..
هل هي تنبض مثل القلب..
هل تنمو مثل الجسد..

هل تتعاقب مثل اللحظات .. و تنقضي مثل الحالات النفسية.
هل تسري مثل الضوء و الكهرباء و تنتقل كما تنتقل الحرارة..
و هي أسئلة تفتح علينا الباب على مشكلة أخرى هي .. الزمان..
ما هو الزمان ؟..
هل هو حركة عقرب الثواني و الدقائق و الساعات ؟..

هل هو الأرقام العامة التي تنشرها مصلحة الأرصاد عن توقيت الأيام و الليالي و ساعات الظهر و المغرب
و العشاء..
أم هو زمن آخر خاص يعيشه كل واحد منا في نفسه و يضبط عليه وجوده..
إننا ?ذه الأسئلة نبلغ المنطقة التي يكثر فيها الضباب و تصعب الرؤية..
إ?ا تحملنا إلى تحت..
إ?ا تترل بنا من الأوراق إلى الساق إلى الجذر .. إلى ما تحت الخشب و اللحاء .. إلى العصارة التي تصعد
في نباتنا فتنبعث فيه الحياة..
إننا ننفض يدنا من تشريح الأيدي و الأرجل و نبدأ في بحث الحركة نفسها .. و نكف عن قياس قوة
العضلات لنبحث في الإرادة ذا?ا .. لأننا في غرفة الموتور حيث أنبوبة الاحتراق التي تبعث كل الطاقة..
و هنا تتصادم الأفكار و النظريات و المذاهب في الظلام..

الزمن
إن دقات ساعة الحائط تقدم لك زمناً
مزيفاً..ابحث عن زمنك الحقيقي في
دقات قلبك .. و نبض إحساسك..
كل شيء في الدنيا يجري و يلهث..
الشمس تشرق و تغرب..
و النجوم تدور في أفلاكها..
و الأرض تدور حول نفسها..
و الرياح ?ب في الجهات الأربع..
و السيول تنهمر من أعلى الجبال..
و الينابيع تتفجر من باطن الأرض..
و النبات و الحيوان و الإنسان تعيش كلها في حركة دائبة..
و ذرات الجماد ?رول في مدارا?ا..
و ظاهرات الطبيعة كلها عبارة عن حركة .. الكهرباء حركة .. و الصوت حركة و الضوء حركة .. و
الحرارة حركة .. و الكون كله يتمدد مثل فقاعة من الصابون و ينفجر في كل قطر من الفضاء..
المادة في حالة انتشار وذبذبة وحركة ولهذا يقول اينشتين أن لها بعدا رابعا غير الأبعاد الثلاثة المعروفة
..أو الزمن الملتصق بالمكان ويسميه الزمكان.
المادة مثل حيوان له طول و عرض و سمك و عمر .. و العمر يدخل في تركيبها .. كما يدخل في
تركيب الحيوان .. الزمن إحدى الفتلات التي يتألف منها نسيج المادة..
و هو أيضاً إحدى الفتلات التي يتألف منها نسيج الكائن الحي.
* * *
و لكن ما الزمن.
هل هو دقات الساعة . و النتيجة المعلقة بالحائط و التقويم الفلكي بالفصول و الأيام..
إننا ما زلنا نذكر كلمات المراقب و نحن نؤدي الامتحان في آخر كل سنة..
باقي على الزمن نصف ساعة..

نذكر الرجفة التي كنا نحس ?ا و نحن ننظر إلى ورقة الإجابة و إلى ورقة الأسئلة .. و إلى الساعة في يد
المراقب .. و إلى شفتيه و هما تنطقان..
باقي على الزمن نصف ساعة..
كأنه ينطق حكماً بالإعدام .. أو حكماً بالإفراج..
كأن النصف ساعة عند بعضنا قصيراً جداً .. أقصر من نصف دقيقة .. لأن ورقة الإجابة مازالت بيضاء
أمامه .. و لأنه ما زال يبحث .. و يهرش في رأسه.
و كان عند بعضنا الآخر طويلاً مملاً .. أطول من نصف اليوم .. لأنه قد انتهى من الإجابة.
كانت الساعة في يد المراقب تشير إلى زمن واحد .. و لكن كلاً منا له زمن خاص به..
كأن معيار الدقائق عند كل منا يختلف عن الآخر.
و هذا هو مفتاح اللغز..
* * *
إن الزمن ليس شيئاً منعزلاً عنا مثل الشجرة و المحبرة و الكتاب .. ليس زمبلكاً تحتويه ساعة اليد .. و
لكنه شيء يلابسنا.
لكل منا زمن خاص به.
عواطفنا و اهتماماتنا هي الساعة الحقيقية التي تضبط الزمن و تطيله أو تقصره.
أفراحنا تجعل ساعاتنا لحظات.
و آلامنا تجعل لحظاتنا طويلة مريرة ثقيلة مثل السنين و أطول.
إحساسنا بالسرعة و البطء ليس مصدره ساعة الحائط و لكن مصدره الحقيقي الشعور في داخلنا..
إن ساعة الحائط تقدم لنا زمناً مزيفاً .. و مثلها التقويم الفلكي الذي يقسم حياتنا إلى أيام و شهور و
فصول.
و التاريخ الذي يقسم أعمارنا إلى ماض و حاضر و مستقبل .. لأن حياتنا غير قابلة للقسمة .. و لأن
الزمن في داخلنا غير قابل للقسمة أيضاً

إن حياتنا لحظة طويلة مستمرة يصاحبها إحساس مستمر بالحضور و نحن نتعرف على الماضي من خلال
الحاضر .. فحينما نعيش في إحساس بالتذكر نسميه ماضياً .. و حينما نعيش في إحساس بالتوقع نسميه
مستقبلاً .. و لكن كل هذه الإحساسات هي حاضر.
و الفواصل بين الماضي و الحاضر و المستقبل فواصل وهمية لأن اللحظات الثلاث تتداخل بعضها في بعض
كما يتداخل الليل و النهار عن الأفق..
و الذي يقوم بتعيين اللحظة في الشعور هو الانتباه.
الانتباه هو الذي يضع خطاً تحت بعض مشاعرنا و إحساساتنا فيخيل لنا أننا وقفنا لحظة و الحقيقة أنه لا
وقوف أبداً .. و إنما نحن نعيش في حالة تدفق داخلي مستمر أبداً و دائماً.
و الزمن الخارجي .. زمن الساعات و المنبهات زمن كاذب خداع لأنه يساوي بين اللحظات و يجعلها
مجرد أرقام على مينا..
الساعة واحدة .. الساعة اتنين .. الساعة تلاتة .. مجرد حركة من العقرب .. و انتقال بضعة سنتيميترات
على المينا .. إنه ليس زماناً و لكنه أوضاع مختلفة في المكان .. أما الزمن الحقيقي فهو في داخلنا .. و هو
اضطراب دائم لا تتساوى فيه لحظة بأخرى .. لحظة صغيرة .. و لحظة كبيرة .. و لحظة تافهة..
و هو غير قابل للتكرار .. لأن كل لحظة تحتوي على الماضي كله و معه علاوة من الحاضر .. و في كل
لحظة تضاف علاوة جديدة من التجربة و الحياة فلا تعود الحياة قابلة لأي تكرار .. و إنما هي الرؤية..
بينما يحتاج الذي يشاهدنا من الخارج أن يرى حركات ذراعنا بعينه و يتبعها و يحللها بعقله ليقول أننا
نحرك ذراعنا إلى فوق..
و معرفتنا نحن أرقى من معرفته لأننا نعاين الحقيقة مباشرة.
و ?ذه المعرفة اكتشفنا الزمن .. زمننا الحقيقي.
و لكننا لا نعيش حياتنا كلها في الزمن الحقيقي لأننا لا نعيش في نفوسنا كل الوقت .. و إنما نعيش في
مجتمع .. نخرج و نختلط بالناس و نتبادل المنفعة و نتعامل و نتكلم و نأخذ و نعطي..
و لهذا لا نجد مفراً من الخضوع للزمن الآخر .. زمن الساعات .. فنتقيد بالمواعيد و نرتبط بالأمكنة.
و نبحث عن الأشياء المشتركة بيننا لنتفاهم .. و في أثناء بحثنا عن الأشياء المشتركة تضيع منا الأشياء
الأصلية.
العرف و التقاليد و الأفكار الجاهزة تطمس الأشياء المبتكرة فينا و تطمس الذات العميقة التي تحتوي على
سرنا و حقيقتنا..
و نمضي في زحام الناس و قد لبسنا لهم نفساً مستعارة من التقاليد و العادات لنعجبهم..

و تتكون عندنا بمضي الزمن ذات اجتماعية تعيش بأفكار جاهزة و عادات وراثية و رغبات عامة لا
شخصية..
و هذه هي الذات سطحية ثرثارة تقضي وقتها في التعازي و التهاني و ا?املات و المعايدات و السخافات
و تنفق حيا?ا في علاقات سطحية تشبه المواصلات المادية التي توصل من الباب إلى الباب و لا توصل من
القلب إلى القلب.
و هذه الذات التافهة هي غير الذات العميقة التي نغوص إليها في ساعات وحدتنا و نكتشف فيها أنفسنا
و نتعرف على وجوهنا الحقيقية..
إ?ا ذات جامدة مثل الجسد تحكمها الغرائز و الضرورات الاجتماعية..
و هي تشبه المرحاض النفساني نفرز فيه كسلنا و ضيقنا و مللنا و نقتل فيه وقتنا بانشغالات رخيصة
تافهو مثل قزقزة اللب و لعب الطاولة .. و نحن نتأرجح في حياتنا بين هذه الذات السطحية و بين الذات
العميقة .. ?بط مرة و نعلو مرة .. نعيش في زمن الساعات لفترة طويلة من يومنا في وظائف و أعمال
آلية روتينية .. و نعيش في لحظات قليلة متألقة في داخلنا في زمننا الحقيقي الجياش فنهتز بالنشوة و نشرق
بالسعادة و نرتجف بالقلق و نمتلئ بالفضول و اللذة و نعرف نفوسنا على حقيقتها و بكار?ا..
و نحن نكتشف هذه النفوس البكر في مغامرات قليلة..
نكتشفها لأول مرة في مغامرة الحب حينما نعثر على المرأة التي ?ز وجودنا .. و تخترقنا و تخترق عادتنا و
تفكيرنا و حياتنا و تقلبها رأساً على عقب .. فتبدو كأ?ا حياة جديدة عجيبة..
و نكتشفها لثاني مرة في مغامرة الفن .. في لحظة الإلهام التي ينفتح فيها شعورنا على إدراك جديد و
تصوير جديد للدنيا .. فنكتب أو نغني أو نرسم أو نقول شعراً..
و نكتشفها لثالث مرة في مغامرة التأمل و في الشعور العميق بالتدين .. في لحظة الجلاء الفكري و
الصوفي التي نضع فيها على حقيقة جديدة فينا أو في الناس حولنا أو في الدنيا..
و نكتشفها لرابع مرة في المعمل .. و في لحظة الاختراع التي نعثر فيها على سر من أسرار الطبيعة يبهرنا و
يدهشنا . و يصدمنا.
كل هذه الاكتشافات تخرجنا من الزمن المبتذل و المتكرر .. زمن الساعات . و تترل بنا إلى أعماقنا ..
إلى زمننا الحقيقي حيث كل شيء جديد و مبتكر .. مدهش .. جميل .. باعث لأقصى اللذة الفضول..

إن الإنسان معجزة المتناقضات.
إنه فان و يحتوي على خالد.
و ميت و يشتمل على حي.
و عبد يحتضن قلباً حراً.
و زمني و يحتوي على الأبدية.
و حبه و فنه و تفكيره و صحته و مرضه و جسده و تشريحه تدل كلها على هذا التركيب المتناقض.
الدنيا كلها تقيده و جسده يقيده مثل الجاكتة الجبس .. و مع ذلك .. لا تمنعه هذه القيود من أن يضمر
في نفسه شيئاً .. و أن يفرض هذا الشيء على ظروفه.
فهو يصهر الحديد و يسوي الجبال بالأرض و يشق الأنفاق و يطلق قذيفة من عدة أطنان إلى القمر ..
كل هذا و هو جسم صغير هلامي من اللحم و الدم..
و هو يرقد مريضاً مشلولاً يائساً .. فإذا اجتمع بزوجته أنجب طفلاً يرقص من الصحة و العافية..
أين كانت هذه الصحة مختفية في المرض..
و هو يبدو ضعيفاً قليل الحيلة .. تقتله رصاصة بمليم .. تماماً مثل الرصاصة التي تقتل الكلب .. و لكنه مع
هذا لا يستطيع أن يطلق من فمه قبل أن يموت صيحة يهدم ?ا نظاماً بأسره..
من أين يخرج صوته .. و ينساب تفكيره .. و ينصب شعوره .. و تتدفق قواه غير المحدودة..
إن أعضاءه تبدو في التشريح من مادة تقبل الوزن و القياس .. و تخضع للزمن..
و لكن شعوره يكشف عن مادة أخرى و زمن آخر يعيش فيه غير زمن الساعات و الدقائق .. زمن حر
يقصر و يطول حسب إرادته..
و تعمق هذا الشعور في لحظات الحب و الإلهام و التصوف .. يكشف عن حقيقة أغرب..
إن هناك أفقاً ثالثاً في داخله..
أفقاً غير زمني .. لحظاته أبدية مليئة .. لا تنقضي مثل اللحظات و إنما تظل شاخصة في الشعور مالئة

ماذا تكون تلك اللحظات..
أتكون هي الثقوب التي تطل على سره..
و ماذا يكون سره الخافي تحتها..
أهو الروح ؟.. !!
و ما الروح ؟.. !!
إ?ا الحرية..
الحرية جوهر الإنسان و روحه .. و من خلال محاولتنا لفهم الحرية سوف نقترب من فهم الروح..

الخيط
القشة في البحر يحركها التيار
و الغصن على الشجرة تحركه الريح
و الإنسان وحده .. هو الذي
تحركه إرادته..
أجمل ما في الدنيا أ?ا واضحة .. تغمرها الشمس .. كل شيء فيها يمكنك أن تراه و تسمعه و تزنه و
تقيسه و تتذوقه و تحلله و تستنتجه..
كل ما يحدث فيها له سبب .. و إذا عرفت سببه استطعت إحداثه .. كل شيء يجري بنظام محكم من
الأسباب و النتائج .. و إذا كان لديك ورقة و قلم فإنك تستطيع أن تحسب بالضبط متى تشرق الشمس
و متى تغرب.. لأ?ا تتحرك حسب قانون..
و كل شيء في الدنيا يتحرك حسب قانون..
إلا الإنسان ..فإنه يشعر أنه يمشي على كيفه.
الإنسان وحده هو الحر المتمرد الثائر على طبيعته وظروفه ولهذا يصطدم بالعالم ويصارعه .. ويستحيل في
أية لحظة أن تتنبأ بمصيره..
إن ما يحدث داخل الإنسان وفي قلبه لا يخضع لقانون..لا توجد هذه الحلقات المترابطة من الأسباب
والنتائج في داخل نفوسنا.
إننا نرغب .. ونتحمس .. ونعمل ولكن هذه السلسلة من الرغبة والحماس والعمل لا تتبع الوحدة
الأخرى حتما.. وإنما يظل الإنسان قادرا على التملص في أية لحظة .. فإذا تراءى له أن يصرف النظر ..
فإن رغبته تموت وحماسته تبرد ولا يتسلسل إلى غايته..
والسبب؟..
لا يوجد سبب..
انه لم يعد يريد
ولماذا لم يعد يريد..
كده..

وليس ا?تمع وحده هو الذي يتقاضاه ضرائب .. ولكن الكون كله ..جاذبية الأرض ..وضغط الهواء ..
ومياه المحيطات والغابات بحيوانا?ا وطيورها والسماء بكواكبها .. كلها تحاصره وتحاصر حريته وتطالبه
بنوع من الوفاق معها .وهو بالوفاق يربح حريته دائماً ..
بالوفاق مع العالم يمتطيه كما يمتطى الجواد ..
فهو حينما يفطن إلى اتجاه الريح ..ويضع شراعه في مواجهته يمتطي الريح ويسخره لخدمته.
وحينما يفطن إلى أن الخشب أخف من الماء .. و يصنع مركباً من الخشب .. يمتطي الماء .. و بالمثل
حينما يفطن إلى نفع الناس و يسير في اتجاههم .. يكسب الناس و يكسب معونتهم..
إن ا?تمع يضغط على الفرد و على حريته .. و لكن العقل يستطيع دائماً أن يقلب هذا الضغط إلى
مصلحة و منفعة و حرية .. بأن يكتشف ببصيرته القوانين التي تربط الأشياء بعضها ببعض..
* * *
إن الإنسان يعيش مضطرباً بين عاملين .. عالم رغباته و نزواته و كلها حرة طائشة بلا حدود .. و عالم
المادة حوله و هي جامدة محدودة مغلولة في القوانين..
و سبيله الوحيدة هي معرفة هذه القوانين.
حريته لا تستطيع أن تشق طريقها بدون العلم .. إ?ا بدون العلم .. تكون مجرد رغبة مجنونة في داخله ..
مجرد نية .. و حلم و أمل سجين.
مجرد حرية وجودية تصلح مادة لقصة أو قصيدة أو أغنية أو تمثال .. أو مغامرة .. أو جريمة قتل .. و
لكنها لا تصلح لكسب حقيقي واقعي.
إن الفرق بين العبودية و الحرية هو خيط رفيع . خيط رفيع يرقص عليه الإنسان .. و يتأرجح.
إذا سقط في داخل نفسه ضاع في أحلام اليقظة و الرؤيا و الأماني.
و إذا سقط في العالم ضاع في دوامة الزمن الآلي .. و جرفه الروتين و العرف و التقاليد .. و ابتلعه
ا?تمع في جوفه.
و إذا فتح عينيه و نظر إلى العالم حوله فإنه يستطيع النجاة بحريته , و يستطيع أن يقفز على الحبل
خطوات واسعة إلى الأمام..
إن طريقه ضيقة محفوفة بالمخاطر .. و الموت يترصده من كل جانب.
إن عليه أن يدرس الواقع حوله بما فيه من منخفضات و مرتفعات و مطبات .. و يكتشف ما فيه من
قوى .. و يتعرف الطريق إلى قياد?ا و الاستفادة منها..

إن الخيط الذي يسير عليه هو خيط ضيق من الواقع .. يحف به العالم من ناحية .. و تحف به رغباته
الطائشة من ناحية أخرى..
و لو دخل في نفسه و لاذ برغباته و أحلامه و انطوى على ذاته فإنه يموت كما تموت الوردة التي تنفصل
من شجر?ا .. و تستعبده شهوته و تسجنه غرائزه..
و إذا ذاب في ا?تمع و خضع للناس خضوع الشاة .. فإنه يموت و يفقد شخصيته..
و حبل النجاة هو ذلك الخيط الرفيع .. حيث يحدث التصادم بين نفسه و العالم .. بين داخله و خارجه
.. و حيث تلتحم رغباته بالدنيا .. مائة مرة كل يوم..
حبل النجاة أن يكون ذاتياً موضوعياً في نفس الوقت , أن تكون عينه مفتوحة على داخله .. واعية لما
يجري حوله .. و أن يتدفق نشاطه من هذه البطارية ذات القطبين على الدوام.
?ذا وحده يفوز بنفسه ((و يفوز العالم)) و يصبح إنساناً حراً.
* * *
و لكن هل يفوز بحريته و بلا حدود .. ألا توجد سلطة على غير ظروفه..
هل يستطيع أن يقول أنه مخير و أنه لا توجد قوة أعلى منه ترسم له مصيره و قدره.
أم أن حريته في غايتها هي حرية بشرية محدودة نسبية.
و أين يكون مكاننا في المشكلة الأزلية .. بين .. المخير .. و المسير..


يتبع ..


عدل سابقا من قبل creepaʬ في السبت أغسطس 13, 2011 2:25 am عدل 1 مرات
مُشاطرة هذه المقالة على:reddit

تعاليق

Harmman420
السبت أغسطس 13, 2011 1:56 amHarmman420
مسير أم مخير
الإنسان مخير فيما يعلم ..
و مسير فيما لا يعلم


سؤال محير .
هل أنا مخير أم مسير ؟
شعوري يقول في كل لحظة أني حر .
وواقعي يكشف لي في كل لحظة ألف لون و لون من ألوان الجبر و القهر .
أين أنا في هذه المشكلة .
هل أنا الذي أختار حياتي .
أم أن حياتي هي التي تختار لي .
تعودت دائماً كلما تناولت هذه المشكلة في مقال أن أختار جانب الحرية .. و كانت خطابات القراء
تنهال علي في كل مرة سيل من الاحتجاجات .
و لهذا فكرت أن أدخل إلى الموضوع هذه المرة بطريقة جدلية .. و أن أجعله في صورة حوار سقراطي
فأبدأ بالإشكال كما يتصوره القراء في خطابا?م و تساؤلا?م ثم أتخذ من تساؤلا?م مدخلاً إلى الموضوع
لأكون أقرب ما يمكن إلى عقل القارئ العام و تصوراته .
* * *
يقول القارئ أحمد ناجي شرف الدين تعليقاً على كقالي في خطاب طويل :
.. ستة آلاف يوماً عشتها و لا أدري لم أعيش .. و إلى أين أسير .

ثلاثة و عشرون عاماً عشتها و لا أدري و أنا أمثل رواية الأبدي .. صحو .. منام .. شرب .. طعام ..
صمت .. كلام .. وداد و خصام و الأيام تكر .. و السنون تمر .. و العمر يمضي دون أن أعرف من أنا
.. و لماذا أتيت .. و إلى أين أسير ..
إني أجري وراء المستقبل .. و أمني النفس بالآمال .. ففي المستقبل أبلغ آمالي .. و فيه أصلح نفسي .. و
فيه أنيب إلى ربي .. و فيه أكتب تلك المعاني التي طالما جاشت ?ا نفسي .. و لكن المستقبل لا يأتي أبداً
.. و حينما يأتي يصير حاضراً و أبدأ في التفتيش عن مستقبل آخر .
حينما كنت في الابتدائية كنت أتمنى أن أصبح تلميذاً في الثانوية أرتدي البنطلون الطويل و أصفف شعري
و أحتفظ بقطع الطباشير الميري لألقيها على أطفال مدرسة الروضة التي تجاور مدرستنا كما كان يفعل
معي طلبة المدرسة الثانوية ا?اورة .. و يوم وصلت إلى هذا الأمل هان علي و ذهب ?اؤه و انطفأت
روعته و بدأت أنظر إلى مستقبل آخر و أصبحت أتمنى أن أكون موظفاً في الحكومة مثل سيد أفندي
الذي يسكن عند خالي و أتأبط الجريدة اليومية و أناقش في السياسة الدولية و أجلس واضعاً رجلاً على
رجل و ألعب الطاولة .. و قد كان .. إذ ما كادت سنوات أربع تمر حتى كنت موظفاً بالحكومة .. و
ذقت تلك المرارة التي يشعر ?ا الموظف و التي كان يخفيها سيد أفندي تحت جاكتته و ابتسامته المفتعلة ..
و هان علي? الأمر مرة أخرى و ذهب ?اؤه و تغير حالي بانتقالي من عالمي الساذج إلى دنيا الوظيفة بما
فيها من تملق و نفاق و كذب .
و جاء أول شهر لأقبض أول مرتب .. سبعة جنيهات .. و كنت حينذاك في أسيوط على بعد الأميال
من بلدي .. و بدأت أشعر بضيق الحياة .. و تبددت آمالي ..
لم أتمكن من الجلوس على مقهى .. و لم أتمكن من ?يئة وقت للمذاكرة . و أصبح التحاقي بالجامعة
استحالة .
و ضاقت حرياتي حتى كادت تنعدم و لم يبق منها إلا حرية الحصول على خبز اليوم أتبلغ به لأعيش يوماً
آخر .
أين الحرية التي تتشدق ?ا و تملأ ?ا مقالاتك .
هل أنا حر .. و كيف .. و أنا لا أكاد أملك إلا الكفاف و لا أصلح إلا لمشوار من الديوان إلى البيت و
من البيت إلى الديوان .
كيف أتزوج و كيف أعيش و كيف أستمر في تعليمي و كيف أحفظ صحتي .. و كيف أوفر كل هذه
الحريات و ليس لدي إمكانيات .
إني لا أملك إلا حرية واحدة هي قتل نفسي إذا كنت تظن أن هذه حرية

و إذن فأنا لست حراً إلا بقدر ما عندي من وسائل تحقيق هذه الحرية .
إن حريتي مشلولة ناقصة .

و ينتهي عبد الفتاح سليم إلى أنه مسير مقهور مجبور على حاله و أفعاله , ثم يسأل كيف يكون مسيراً و
مقهوراً و مجبوراً ?ذه الكيفية و يحاسبه الله و يعاقبه أو يكافئه و يجزيه .. أين وجه العدالة الإلهية في
القضية .
* * *
أما أحمد الألفي فينتهي إلى أنه حر و لكنه يتساءل كيف يكون حراً و يتدخل الله سبحانه لنجدته .. ألا
يكون في هذا التدخل إخلال بحريته ..
كيف يمكن التوفيق بين فكرة الحرية و فكرة العناية و التدخل الإلهي .
كيف نكون أحراراً و كل ما نفعله بأمر الله .. قدره علينا منذ الأزل .. هو الذي خلقنا و خلق أفعالنا و
هو الوحيد الذي يفعل لا إله إلا هو و ما نحن إلا أدوات إرادته .
* * *
و ?ذه الخطابات و التساؤلات يحيط القراء بكل جوانب المشكلة الأزلية.. مشكلة المخير و المسير.
و هم يحشدون أسلحتهم ضدي و يشحذون أدمغتهم.. و يصرخون في وجهي في صوت واحد .
و هذا وحده أول دليل على حريتهم فقد صنع كل واحد منهم رأياً مستقلاً و لم يتقيد بكتبي و لا
مقالاتي و لم يخضع لوجهة نظري.
و أنتقل إلى اعتراضا?م فأقول إن أغلبها يدور حول نقطة واحدة.. هي القيود المضروبة حولنا.
و بعض هذه القيود تصل إلينا بالوراثة مثل الاسم و الجنس و الدين و الوطن فنولد ?ا كما نولد بجسمنا
.
وبعضها يصل إلينا من بيئتنا .. مثل الطبيعة التي نعيش فيها حرها و بردها و رعدها و ميكروبا?ا و
أمراضها و ناسها .
و بعضها من صنعنا و ابتكارنا مثل القوانين و الأخلاق و النظم السياسية.
وجميعها في النهاية تقيدنا فلا يبقى لنا إلا القليل أو ما دون القليل.
و هذا ما يجعل القارئ عبد الرؤوف يقول :

أن الحرية مستحيلة.. وإ?ا إذا كانت ممكنة فليس لها إلا طريق واحد.. أن يفنى كل شيء حولنا ينعدم ..
أن أصبح وحيداً منفرداً مثل الله بلا شريك وبلا آخرين معي وبلا أشياء..ذات حرة مجردة بدون
مقاومات من أي نوع .
و القارئ ينسى أن الحرية تفقد معناها بمجرد سقوط المقاومات حولها لأن انعدام المقاومات حولي
وامتلاكي لكل شيء في وقت معناه انتفاء كل نقص عندي ومعناه كمالي لأني أصبح الكل في
الكل..وبالتالي تنعدم مطالبي و رغباتي لأن المطالب والرغبات منبعها احتياجاتي .
و بانعدام الرغبة والمقاومة يسقط معنى الحرية لأ?ا تكون استهدافاً فارغاً إلى لا شيء وتكون هي ذا?ا لا
شيء.
إن مشكلة الحرية ترتبط دائماً تتأجج في الصدر و مقاومة تقف في سبيلها..
وتتأكد الحرية با?يار المقومة وتراجعها أمام الإرادة ..
?ذه الصورة الجدلية تكشف الحرية عن مدلولها في الواقع .
أما الإنسان الأوحد المنفرد الذي تلاشت من أمامه الظروف و المقاومات و انعدم كل شيء حوله .. و
أصبح هو الكل في الكل .. و اشتمل على العالم في ذاته .. و تحول إلى إله .. ماذا يطلب هذا الكائن و
أي شيء يعترض مطلبه لتصبح حريته أو عدم حريته محل سؤال .
أين الصراع الذي تكشف الحرية مدلولها من خلاله .
إن مثل هذا الكائن لا يتحرك و لا يرغب و لا يأكل و لا يشرب و لا ينمو و لا يكبر و لا يموت و لا
يولد .
إنه يعيش في سكون و أبد و عالم بلا زمان و بلا مكان و كلمة الحرية بالنسبة له هي غير الحرية التي
نعرفها و نتكلم عنها في عاملنا ..
ماذا يطلب و هو المستغني المكتفي بذاته ..
إن الحرية التي تتداولها كلمة بشرية صرفة .. كلمة لا معنى لها إلا بوجود القيود .. بوجود المقاومات ..
بوجود الظروف التي يصرخ منها القراء و يضجون و يشتكون .
أن نطلق الحتمية المضروب حولهم هو الذي يجعل لحريتهم معنى و ليس هو الذي يهدمها كما يظنون ..
لأن الحرية تعبر عن نفسها باختراق الظروف و زحزحة المقاومات و هدم العبقات ..
الحرية عملية مرتبطة باحتكاك الإنسان ببيئته و بظروفه و يلغيها أن يصبح الإنسان إلهة ..
إن السؤال المهم هو :
هل تذوب المقاومات مع الزمن ..

هل تتقهقر العقبات .. عقبة خلق أخرى تحت ضغط إرادة و أسرار الإنسان أم أن كل حياتنا كالحارة
السد ..
و الجواب نعم .. تتقهقر العقبات .. و يتقدم العلم و يتحكم في الحر و البرد و الريح و الماء و يطور
القوانين و الأنظمة إلى أحسن و أحسن ..
و في هذا دليل واقعي أكيد على حرية الإنسان .
* * *
اضغط على الزر الكهربائي في غرفتك فينتشر الضوء و ينهزم الظلام.
ألا تحس أن هذا الكسب العلمي البسيط أضاف إلى حريتك ومثل هذا الكسب ألوف غيره تنتفع ?ا كل
لحظة .. حينما تضع رجلك في ترام أو تدخل سينما أو تقرأ كتاباً أو تتحدث في تليفون .
ان كل شيء يصرخ في أذنيك بأن الحرية حقيقة والتاريخ يلهث جرياً إلى الأمام ليؤكد لك أنك حر ..
والأقمار الصناعية ?تف في الفضاء بأن من يجتهد يصل وأن الطريق مفتوح أمام إرادة البشر.
وما القدر إلا مجرد واسطة تكشف ?ا الحرية عن ذا?ا وتؤكد وجودها ..
* * *
ويصرخ القارئ قائلاً.. هل أنا حر وأنا لا أكاد أملك الكفاف فيثير بذلك قضية الحرية بمعناها الاجتماعي
.. وكيف أنه لا حرية لمن لا يملك القوت.. وأن توفير القوت في ذات الوقت توفير الحرية..
والسؤال هو ما هذا القوت المطلوب توفيره.
أهو مائدة علبها لحم وخبز وأرز وفواكه وثلاجة لحفظ هذه الأطعمة وعربة ليقضي كل منا مشاويره
سعياً لجمع هذا القوت .
إن كان هذا هو القوت المطلوب فإن توفيره لن يكون توفيراً للحرية وإنما سيكون تبديداً لها.. ومعناه أن
يكون الإنسان في خدمة الطعام وليس الطعام في خدمة الإنسان.. معناه تبديد الوقت والجهد والفكر
لتحقيق الوفرة المادية ومعناه أن يصبح الإنسان في النهاية عبداً لهذه الوفرة ويفقد حريته..

أما إذا كان المقصود بالقوت هو الكفاف فإن القضية صادقة فحين لا توجد كسرة الخبز لا توجد حرية
..
و لكن إذا توفرت هذه الكسرة وهذا ميسور فالبحث عن المزيد ليس كسباً لحرية وإنما إضاعة لها..
ولقد كان غاندي أكثر الناس حرية وهو يسعى حافياً على قدميه لا يملك إلا مغزل صوف يدوي وكيس
به بضع ثمرات وعترة يشرب من لبنها ويصنع من صوفها ثيابه.
وكذلك كان محمد والمسيح.. والأحرار العظام الذين صنعوا لنا حرياتنا وغيروا التاريخ..

ولا يحق للقارئ أن يصرخ لأنه لا يملك إلا الكفاف قائلاً لقد فقدت حريتي..أين حريتي..
بل لقد وجدت حريتك ما دمت قد وجدت الكفاف..فما يزيد على الكفاف ليس حرية بل عبودية..
* * *
أما الاعتراض بأن الأخلاق قيود على الحرية.. والقانون قيد على الحرية والضوابط الدينية قيود على الحرية
فهو غير صحيح فكل هذه الضوابط مثل إشارات المرور الأحمر والأخضر والأصفر.
وبدون إشارات المرور تتصادم العربات ويقف المرور ويفقد كل سائق حريته.
إ?ا ضوابط هدفها إتاحة الفرصة لأكبر قدر من الحرية وليس مصادرة للحرية.. وإنما الحرية تستحيل
بدو?ا لأن ا?تمع يتحول إلى غابة ويأكل بعضه بعضاً ويهلك..
وأنت حينما تقيم الضوابط على شهوتك تكسب حريتك لأنك تصبح سيد نفسك لا عبد الغريزة التي
تطيح بعقلك في لحظات..وبالمثل الشجاع أكثر حرية من الجبان وأكثر حرية من المقهور.
والكريم أكثر حرية من البخيل وأكثر حرية من السفيه.
والصبور أكثر حرية من الجذوع الهلوع.
أما حرية القمار والسكر وتدخين المخدرات والتبذل الجنسي فهي ليست حريات..إ?ا درجات من
الانتحار وإهدار الحياة وبالتالي إهدار الحرية..
وكل اختيار ضد القانون الطبيعي ليس اختياراً وإنما إهدار الاختيار.
وكلنا نعلم أننا إذا أردنا أن نزداد حرية ونحن نسبح نختار السباحة مع التيار وليس ضد التيار.
وحينما وضع الإنسان الأول مروحة في اتجاه الريح دارت المروحة واستطاع بذلك أن يصنع طواحين
هوائية يسخر فيها الطبيعة لخدمته وبذلك ازداد حرية.

وهو الآن يضع التوربينات في مساقط المياه ويولد الكهرباء.
الحرية كانت دائماً هي اكتشاف القانون الطبيعي والعمل في اتجاهه وليس العمل ضده.
وهي بالمثل اكتشاف قوانين الجسم والنفس والروح والعمل في اتجاهها بالأخلاق واحترام الآخرين
والتدين وطاعة القوانين.
أما القارئ الذي يتحداني قائلاً:
* * *
هل اخترت شكلك وطولك وعرضك..
فأني أقول له لم أختر شكلي ولا طولي ولا عرضي..ولا أرى هذه الأشياء قيوداً على حريتي..بل أراها
على العكس أدوات حريتي.
فالجسم هو أداة الإرادة في بلوغ أغراضها.
وهو لا يكون قيداً إلا في حالة المرض فإنه يتحول إلى سجن ولكن الله أعطانا العقل لنتغلب على أمراضنا
بالتداوي والجراحة.
ونحن نتقدم في هذه الميادين كل يوم.
ويبقى بعد ذلك اللغز الأزلي..في علاقة الإنسان بالله..كيف يكون الإنسان حراً و هو من أمر الله و كل
ما يفعله بقضائه و قدره , ثم كيف يحاسب بعد ذلك و أخطاؤه مقدورة عليه .
و هو لغز القدر الذي حثت الأديان على البعد عن الخوض فيه لأن الجواب لا يمكن أن يأتي إلا مكاشفة و إلهاماً عن طريق القلب و ليس العقل .. و لأن المعول فيه على إيمان المؤمن لا فلسفة الفيلسوف .. لأن
العقل فيه لا يجدي و الفلسفة لا تنجد .
و إنما لا بد أن يشف القلب و ترق الحواس لترتفع الحجب و يستطيع الإنسان أن يرى بعين البصيرة و
ليس بعينه البشرية و يتجاوز سجن الواقع المحدود بالأسباب و المسببات ليطل على ما وراءه .
لأن الجواب الكامل يحتاج إلى معرفة علاقة الروح بخالقها و هو أمر محجوب .
و لكن هناك كلمات قليلة يمكن أن تقال كدليل طريق .
فالإنسان حر هذا صحيح و لكن حريته مخلوقة أي مقدورة عليه ..
و هذا أشبه بأن نقول أنه محكوم عليه بالحرية مضطر للاختيار و هذا يضعه في مترلة بين مترلتين .
فهو ليس حراً حرية الله المطلقة .
و هو ليس مقهوراً مسيراً مجبوراً جبر المادة العمياء .

و حينما نقول أن النار تأكل الحطب فهذه علاقة جبرية حتمية .
أي أ?ا لا بد أن تأكل الحطب حتماً فلا يمكن أن تكون مسؤولة .
و المادة كلها ترسف في هذه الحتميات .
و الإنسان ليس ميسراً ?ذه الدرجة .
و لا هو حر حرية الله المطلقة .
إنما هو في مترلة بين المترلتين .
فهو مخير فيما يعلم , مسير فيما لا يعلم .
أو هو بكلمة أدق مخير مسير في ذات اللحظة و هذا هو ما نسميه بالحرية البشرية و لهذا أيضاً فهو
مسؤول بدرجة و ليس مسؤولاً بشكل مطلق .
فكما أن القاضي يحكم و يدخل في اعتباره الظروف و الدواعي و المغريات و الضغوط النفسية فيخفف و
يشدد بناء على هذه الاعتبارات .. كذلك يحكم القاضي الأزل الذي الذي لا يخفى عليه شيء .
و لكن لن يكون الإنسان غير مسؤول لأن مقامه ليس مقام المادة العمياء ..
و الله لا يأمر الظالم أن يظلم ..
و إنما هو يعلم أنه سوف يظلم بحكم أنه محيط بكل شيء علماً .
و فارق بين سبق العلم و بين الإكراه .
الله أعطانا الحرية و هو يعلم منذ الأزل ماذا سنفعله ?ذه الحرية .
و هو الذي يقول لنا أنه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
و يقول لنبيه . لا إكراه في الدين ..
لأنه لا يتدخل و لا يحب لأحد أن يتدخل بإكراه النفوس على غير طبائعها لأن ذلك يتنافى مع قدسية
الحرية التي أرادها لها .
إذن الحرية حقيقة ..
و لأن هذه الحرية هي إرادة الله فهي جبر و اختيار في ذات الوقت .
و إنما تكون الرحمة الإلهية بأن تجد النفس تيسيرات من جنس طبعها ((كل إنسان مسير لما خلق له)) .
و لهذا لا يتنافى التدخل الإلهي مع الحرية بل يؤكدها .
إن كل نفس تجد جميع الظروف ميسرة لتفصح عن مكونا?ا و تحقق ذا?ا بالخير و الشر .. لتكون كما
هي ..

أما كيف يخلق الله واحداً ليظلم كما يخلق آخر ليعدل فتفسيره أن إرادة الله مطلقة فهو يريد المحبوب كما
يريد المكروه .
و لكن قضت عدالته بعد ذلك أن يختار من يحب لما يحب و أن يختار من يكره لما يكره .. فاختار الشرير
للظلم و الخير للعدل ..
و لو أنه اختار الشرير ليعدل و الخير ليظلم .. لانقلب الميزان و هذا مستحيل في حقه فهو كامل في
عدالته

ثم إن الظالم هو من أختار أن يكون ظالما كما اختار الكافر ان يكفر وكما اخترت انت ان تقرا هذا الموضوع مثلا وكما اخترت انا ان اتناول هذه الوجبة ولا اتناول الأخرى

.
هذه مجرد إشارات .. أما كمال العلم فهو من أمور البصيرة .. و مما لا تنفع فيه الكلمات العادية المبتذلة
التعبير .
و كشف جميع جوانب اللغز و إدراك معقولية التناقض .. و كيف أن ((الإنسان مخير مسير)) في ذات
اللحظة .. ه رهن با?اهدة و انفتاح القلب و شفافية الروح و ليس من علوم الكلام .

النوم
أنت حينما تنام .. تتحول إلى شجرة ..
هناك زر كهربائي في المخ ينطفئ في لحظة النوم .. فيسود الظلام و تسود الغيبوبة .. و يتحول الإنسان إلى شجرة .. إلى نبات بدائي .. إلى شيء تستمر فيه الحياة على شكل وظائف
.. دورة الدم تجري .. النفس يتردد .. الخلايا تفرز .. الأمعاء ?ضم .. كل هذا يتم بطريقة تلقائية و
الجسد ممدد بلا حراك .. تماماً مثل نبات مغروس في الأرض تجري فيه العصارة و تنمو الخلايا و تتنفس
من أكسوجين الجو .

إ?ا لحظة غريبة يسقط فيها الجسد في هوة التعب و العجز .
و يستحيل عليه التعبير عن روحه و معنوياته الراقية فيأخذ إجازة .. و يعود ملايين السنين إلى الوراء ..
ليعيش بطريقة بدائية كما كان يعيش النبات .. حياة مريحة لا تكلف جهداً ..
إن سر الموت يكمن في لغز النوم .. لأن النوم هو نصف الطريق إلى الموت , نصف الإنسان الراقي يموت
أثناء النوم .. شخصيته تموت .. عقله يموت .. و يتحول إلى كائن منحط مثل الإسفنج و الطحلب
يتنفس و ينمو بلا وعي .. و كأنه فقد الروح .
إنه يقطع نصف الطريق إلى التراب .. و يعود مليون سنة إلى الخلف ..
يعود عقله الواعي إلى ينبوعه الباطن . و تعود شخصيته الواعية إلى ينبوعها الطبيعي الذي يعمل في غيبوبة
كما تعمل العصارة في لحاء الشجر .. و يلتقي الإنسان بخاماته الطبيعية .. بجسده و ترابه و مادته و الجزء
اللاوعي من وجوده ..
إن الشعراء يقولون أن لحظات النهار سطحية لأن ألوان النهار البراقة تخطف الانتباه .. و لحظات الليل
عميقة لأن الليل يهتك هذا الستار البراق و يفك أغلال الانتباه فيغوص في أعماق الأشياء ..
و أنا أقول أن لحظة النعاس هي أعمق اللحظات لأ?ا ?تك ستاراً آخر و هو ستار الألفة .
النعاس يمحو الألفة بيني و بين الأشياء فتبدو غريبة مدهشة مما يدعوني أحياناً إلى التساؤل .. و أنا أنظر
حولي في غرفة نومي بين النوم و اليقظة .. و أهمس : أنا فين ؟ ..

إني لا أتعرف على سريري .. و لا أتعرف على دولابي .. و تسقط الألفة تماماً بيني و بين غرفتي فتبدو
غريبة ..
و هذه اللحظة عميقة .. لأن العقل يخرج فيها من إطار ظروفه و يتحرر من الألفة تماماً بيني و بين غرفتي
فتبدو غريبة ..
و هذه اللحظة لحظة عميقة .. لأن العقل يخرج فيها من إطار ظروفه و يتحرر من الألفة و التعود و
الأحكام العادية و ينظر حوله من جديد .. ليصدر أحكاماً جديدة أكثر تحرراً .. و إلهاماً .
و الأنبياء كانوا يتلقون إلهامهم في هذه اللحظة .. و كأن الوحي يأتيهم بين النعاس و الغيبوبة ..
و نيوتن اكتشف قانون الجاذبية في هذه اللحظة .. و هو ينظر بعين نعسانة إلى تفاحة تسقط من الشجرة
.. لقد أحس أن سقوط التفاحة أمر غير مألوف .. و أن التفاحة لا يمكن أن تسقط على الأرض .. و إنما
الأرض هب التي يجب أن تجذ?ا ..
و كل المخترعين و المؤلفين و الشعراء و المفكرين .. تفتقت أذها?م في هذه اللحظة .. لأ?ا اللحظة
الحرجة التي سقط فيها المألوف .. و المعتاد .. و لمعت الحياة بالدهشة .. و برق العقل بأسئلة جديدة تماماً
.. لم يكن ليلقيها لو كان في كامل يقظته .. و كامل ارتباطه بالأشياء ..
و الفرق بين النبي .. و العبقري .. في تلك اللحظة هي مساحة الرؤيا التي تنكشف لكل واحد .
النبي يشبه جهاز تلفزيون به مليون صمام .. مساحة الرؤيا فيه شاسعة .. و قدرة استقباله كبيرة .. فهو
يستطيع أن يستقبل صوراً من المريخ على شاشة بانورامية عريضة لأنه مؤيد بوسائل إلهية .
و العبقري هو جهاز ترانزيستور صغير يكاد يستمع إلى محطة القاهرة بالسعودية .. لأنه يعتمد على
اجتهاد الخاطر الذي قد يخطئ و قد يصيب ..
و لكن الاثنين يسبحان جنباً إلى جنب في بحر الحقائق .
* * *
و النوم في حقيقته يقظة عميقة . تتيقظ فيه الوظائف الأصلية و .. فتنتظم دورة الدم .. و ينتظم التنفس
.. و ينتظم الهضم .. و الامتصاص و الإفراز و يتوقف الهدم .. و يبدأ النمو و البناء و يقل الاحتراق
الذي يحدث في النهار .
و تتيقظ رغبات أكثر أصالة من رغبات النهار ..
الغرائز كلها تتيقظ وتعمل..وتنشر نشاطها في الأحلام..وتفضح نزوا?ا على مسرح رمزي مبهم لا
يستطيع فك رموزه وطلاسمه إلا صاحبه.


ويدخل النوم بعد هذا في مرحلة أعمق.. هي النوم الثقيل..وهي مرحلة تخلو من الإحساس تماماً.. وتخلو
من الأحلام أيضاً.. مرحلة من الظلام.. والعدم.. وهوةّ بعيدة الغور.. ومساحة مشطوبة من الحياة.. ليس
فيها وعي ولا زمن..ولا مكان..العشر ساعات تمر فيها كلمح الطرف بين غمضة العين وانتباهتها..
بدون إحساس بالمدة.. وكأن خيط العمر انقطع فجأة.. كما يحدث حينما نقطع أشرطة التسجيل ثم
نوصلها من جديد ليستمر سياق الكلام كما نريد.
السياق الزمني في النوم غريب.
إنه زمن آخر غير زمن الساعة.. فالحلم قد يحتوي على أحداث سنة كاملة بتفاصيلها من حب إلى زواج
إلى طلاق إلى جريمة ومع هذا لايستغرق بحساب الساعة أكثر من ثانية..
والعكس يحدث أحيانا فتمر على النائم عشر ساعات وفي ظنه أن عقرب الساعة لم يتحرك إلا دقائق
معدودة..
الزمن يتخلص من قيود الساعة أثناء النوم..ويخضع لتقدير آخر هو تقدير المخيلة التي توسع وتضيق فيه
على حسب ازدحامها بالحوادث والرغبات.
إنه من صناعة النائم وخلقه.. فهو ذاتي صرف..
النائم كالفنان الذي يؤلف قصة. يخلق زمن القصة كما يريد. ويعيش في قمقم خرافي من أوهامه.. يتمطى
فيه ويصرخ بالرغبة التي يحبها. في حرية مطلقة تصل إلى حد العبث.
ومعظم أحلامنا عبث في عبث.. وأمنيات مستحيلة.. ولكننا نعيشها كما نريدها ونحن نائمون.
* * *
والنوم أرخص أنواع الحياة من حيث الكلفة.. فمقدار السكر والأكسوجين الذي يحتاجه النائم ليستمر في
الحياة أقل بكثير من المقدار الذي يحتاجه في اليقظة.
والإنسان الذي يعيش مائة سنة بين نوم ويقظة يستطيع أن يعيش ثلاثمائة سنة إذا عمل على حسابه أن
ينامها كلها.
* * *
ومادة النوم رخيصة.. لأن الإنسان يقترب فيه من التراب.. ويعود إلى الآلية الكيميائية المتأصلة في خلاياه
من بداية الحياة


كيمياء الحياة
بين الحياة و الموت .. خيط رفيع
حينما دبت الحياة على مسرح الدنيا منذ ملايين السنين .. كان المسرح مختلف كثيراً عن حاله الآن ..
كانت الأرض ساخنة و الجو مثقلاً بالبخار .. و لم يكن الأكسجين ?ذه الكثرة و إنما كان نادراً .. و
كان الغاز المنتشر بكثرة هو الآيدروجين و النوشادر و الميثان و أول أكسيد الكربون .. و كان ومض
البرق و قرقعة الرعد و الضوء فوق البنفسجي و الإشعاع الذري و الشحنات الكهربائية العالية لا تنقطع
.. و كانت المياه تغمر مساحات واسعة في برك ضحلة .. و لم تكن المياه صافية رائقة يطفو عليها
الطحلب الأخضر كمياه الغدران الآن .. و إنما كانت مياهاً عكرة كثيفة كالحساء مليئة بأملاح
الفوسفور و الكالسيوم و الصوديوم و البوتاسيوم و الحديد و الكبريت ..
في هذا المسرح الكيميائي النشط .. بدأت الحياة .. و لهذا لا بد لنا أن نتكلم قليلاً في الكيمياء .. و لا بد
للقارئ أن يتحمل معنا عناء رحلة في مجاهل عالم الكيمياء .. إذا أراد أن يعرف سر وجوده .
* * *
استطاعت المعامل أن تثبت أن مادة الحياة واحدة تقريباً في كل الكائنات الحية .. و أن الفوارق بين
تركيب لحم الحمار و لحم البني آدم و لحم الحشرة .. فوارق طفيفة لا تذكر .. و أن كل المواد التي تتألف
منها البنية الحية لا تخرج عن كو?ا سكريات و نشويات و دهنيات و بروتينات .
و أثبتت المعامل أيضاً أن هذه المواد جميعها هي تعقيدات مختلفة لمادة واحدة و هي الآيدروكربون .. كل
المواد الحية مشتقات من مادة هيدروكربونية .. من غاو الميثان .. و هو غاز يتألف من الكربون و
الآيدروجين .. فما هو الشيء السحري الذي جعل مادة الكربون بالذات هي المادة المختارة لنشأة الحياة
.
السر أن هذه المادة قلقة غير مستقرة .. غير مشبعة .. فيها قابلية لا ?ائية للارتباط بعدد لا ?ائي من
المركبات و المبادلة عليها بذرا?ا في كل وقت ..
و قد ثبت أن المواد المستقرة التي يسمو?ا في الكيمياء المواد النبيلة كالذهب و البلاتين و غاز الهيليوم و
الأرجون و الكربتون .. كل هذه المواد ظلت مواداً عاطلة خاملة مثل الأمراء الخاملين .. بدأت و انتهت
على حالها دون أن تعطي إمكانيات جديدة .. و السبب أن ذرا?ا مشبعة متوازنة مستقرة لدرجة الموت

.. و لهذا لم يدخل أي واحد من هذه العناصر في تركيب الجسم الحي . و إنما اختارت الحياة مادة واحدة
بعينها شديدة القلق ناقصة غير مشبعة كثيرة الانفكاك و الارتباط بالمواد حولها لتكون مستقراً لها .. هي
مادة الكربون لأ?ا مستودع لطاقة كيماوية لا نهائية و محل لتفاعلات لا آخر لها ..
إذا هي ذاتها فيها صفات الحياة .. الفاعلية و التحول و التكاثر و التعقد ..
إن مفتاح الحياة هو .. الكربون .. لأنه مادة جائعة غير مشبعة تنقصها أربعة إلكترونات في مدارها
الذري لتصل إلى الراحة و التوازن .. و لهذا فهي دائماً تدخل في علاقات و تفاعلات محاولة الوصول إلى
هذا التوازن .. و تكون نتيجة هذه التفاعلات متتاليات كيميائية لا حصر لها .. تبدأ من غاو الميثان ..
الهيدروكربون .. إلى المواد الكربوهيدراتية كالسكريات و النشويات .. إلى الجلسرين و الدهون .. إلى
البروتينات .
كل هذه المتتالية الحية هي تعقيد و اشتقاق من مادة واحدة هي الكربون أو الفحم ..
و قدا قام ميللر بتقليد ظروف الحياة الأولى في المعمل فأحدث تفريغاً كهربائياً في جو خال من الأكسجين
و به ميثان و نشادر و بخار ماء .. فكانت النتيجة مجموعة مدهشة من المركبات العضوية تشتمل على
الأحماض الآمينية .. و هي نواة البروتينات .
و اختيار الحياة لعنصر الكربون بالذات لتتخذ منه الطوب الذي تبنى به معمارها اختيار فيه حكمة .. لأن
الكربون عنصر نشيط .. احتمالاته الكيميائية لا حصر لها .. و قد ثبت بالحساب أن الجزيء الذي
يحتوي على عشرين ذرة من الكربون يمكنه أن يعطي مليون صورة لتركيبات جديدة .
إنه عنصر مثل الحياة مفتوح على آفاق لا?ائية .. ذرة تزيد و ذرة تنقص في الميثان تؤدي إلى تركيب
الكلوروفورم .. الكحول .. النفتالين .. البترول .. إلخ .. ملايين المواد الممكنة .
و كل مادة عضوية لها تعقيدات .
سكر القصب و سكر الفاكهة و سكر الشعير كلها تعقيدات لسكر العنب البسيط الجلوكوز .
و زيت الزيتون و زيت بذرة القطن و زيت الفول السوداني و زيت السمك و شحم الخترير و شحم
البقر .. كلها تعقيدات للجليسرين و الأحماض الدهنية ..
و مادة الأظافر و مادة الجلد و مادة الشعر و مادة العظم و الغضاريف و العضلات و الأعصاب و الدم و
الريش و الأجنحة و قشر الحشرات و زلال البيض و الهرمونات .. كلها تعقيدات و اشتقاقات مختلفة من
المادة البروتينية ..

و أنواع البروتينات التي تتألف من 24 حامض آميني يمكنها أن تعطي إمكانيات مثل التي تعطيها حروف
الهجاء ال 26 .. يمكنها أن تعطي ألوف الكلمات و ملايين الجمل .. كل جملة تختلف عن الأخرى لأن
تحت يدها 24 حرفاً كيميائياً تصنع منها تباديل و توافيق ..
و أهم مادة حية هي البروتين لأن جزيء البروتين ثقيل فيه أكثر من خمسة آلاف ذرة في المتوسط ..
متعدد الاحتمالات بدرجة مذهلة .
و ذرات المادة البروتينية لا تعطي فقط إمكانيات متعددة للتوليف الكيماوي .. و لكنها أيضاً في التحامها
تصنع أشكالاً متعددة من الالتحام . فهي تكون ملضومة أحياناً على شك مجمعات كروية و أحياناً على
شكل سلاسل حلزونية .. و أحياناً على شكل حبال مبرومة كأسلاك التلغراف و في كل مرة تؤدي إلى
شكل تركيبي جديد في وظيفته و طعمه و ملمسه مع أن التركيب الواحد في الكل ..
* * *
و السؤال الثاني الذي خطر ببال الكيميائيين هو الماء .. سر الماء ..
لماذا تبدو الحياة كأ?ا منقوعة كلها في الماء .
لماذا يؤلف الماء معظم النسيج الحي .. و لماذا يدخل كشرط في كل بنية حية ..
لقد تعودنا أن نتعلم في المدارس أن الماء سائل لا طعم له و لا لون و لا رائحة .. و هذه أكذوبة كبرى ..
لأن الماء هو أكثر السوائل نشاطاً لأن تركيبه هو الآخر تركيب قلق غير مستقر غير مشبع .
أثبت الفحص الذري للماء أن ذرة الآيدروجين في جزيئه عارية بدون إلكترونات .. و لهذا كانت شديدة
الشوق إلى استعارة الكترونات من أي مادة تلامسها .. و هذا سر قدرة الماء على إذابة المواد و التفاعل
معها و تحليها إلى إيوانا?ا .
الماء ليس خاملاً .. و ليس عديم الطعم .. عديم النشاط .
الماء توازنه الكهربائي ناقص .. و لهذا فهو يروي من العطش أن له طعماً حيوياً ..
بدليل أن الماء الثقيل المشبع لا يروي .. و إذا شربت منه صفيحة فإنك لا بد هالك عطشاً .
و الماء له فعل آخر .. إنه يحول مادة البروتين إلى كتل غروية جيلاتينية في حالة تماسك كهربائي لا هو
بالتجبن و لا هو بالتخشر .. و ?ذا يصنع خامة حية شديدة الحساسية و عدم الثبات و القلق و التغير و
التحول .

هذا البحث يثبت لنا في النهاية أن مادة الحياة فيها حياة .. فيها صفات الحياة .. و أن نشأة الحياة من
مركبات الكربون و الماء لم تكن مصادفة .. و أن الحياة لو لم تنشأ من الكربون لنشأت من الكربون .. و
أن الاحتمال أكبر من أن يكون مجرد خبطة عشوائية .
إنه ضرورة ..
و هذا يجعلنا نسأل .. ما هي المادة ..
و ما حقيقتها .. !!؟

التراب
إن ذرة التراب ليست شيئاً تافهاً ..
إن فيها حركة .. و فيها نبض ..
هل المادة شيء جامد فعلاً ؟!! ..
هل هي كتلة من السكون و الهمود و الموت .. عديمة النشاط و الفاعلية ..
لا ..
إن هذه كذبة ..
و كلمة جماد نفسها أكبر كذبة ..
إن الجماد في حقيقته غير جامد و لا حتى سائل .. إنه مخلخل من داخله و مؤلف من منظومات هائلة من
الذرات و الجزيئات تسبح في فراغ أثيري ..
و الجزيء هو معمار من الذرات ..
و الذرات نفسها معمار جميل من جسيمات صغيرة نووية تدور حولها كهارب غاية في الصغر منتظمة في
أفلاك .
والذرات والجزيئات مترابطة مع بعضها بقوانين من الجذب والتنافر تشدها إلى بعضها دون أن تسمح لها
بأن تصطدم ببعضها وتذوب وتفقد شكلها وشخصيتها..
إ?ا كالشمس ومنظومتها الكبرى من الأقمار والكواكب..تترابط بالجاذبية.. ولكنها جاذبية لا تزيد إلى
القدر الذي يؤدي إلى تلاحمها وفنائها في بعضها..وإنما هي جاذبية يعادلها تنافر يؤدي إلى احتفاظ هذه
الأجرام السماوية بأشكالها وشخصيا?ا..
وهي تدور حول بعضها..كم تدور كهارب الذرات.. وكما يدور كل شيء في العالم حياً وميتاً.. جامداً
وسائلاً وغازياً..
ولا فرق بين جامد وسائل وغازي, إلا في سرعة الدوران.. السائل ذراته أسرع.. والغاز ذراته أسرع
جداً.. ولذلك تتفكك جداً وتصبح هباءً منثورا.. أو بالتعبير الساذج.. هواء.

إن ما يبدو من شكل التراب على أنه شيء عشوائي فوضوي غير مرتب بلا شكل ولا نظام.. هو مظهر
غير صحيح.. فالتراب أدق دقائقه فيه نظام.. وله شكل.. وله ترتيب وتفصيل.وفيه حركة مبثوثة في
ذراته.
وكل شيء في الكون له صورة ونظام وتفصيل وفيه نبض.. وهنا يبدو الفاصل بين الحي والميت فاصلاً
رفيعا.. وهو يزداد شفافية كلما نظرنا بتعمق في طبيعة المادة..
فالمادة ليست في حالة حركة فقط.. وإنما هي في حالة حركة هادفة أيضاً..
إن ذرات الكربون غير المشبعة تتحرك هادفة نحو التشبع والتوازن وتعقد علاقات وتراكيب وتفاعلات مع
المواد الأخرى ?ذا القصد ..
ومعنى هذا أن تركيب المادة فيه نظام وحركة وهدف ..
وليس هذا فقط بل أن تكوينات المادة فيها طابع الشخصية والتفرد أحياناً .. وهي تلتزم طابعها وتحافظ
عليه .. فمادة كبريتات النحاس تنظم نفسها في بلورات محددة ذات شكل محدد وهي تجدد نفسها في
المحاليل بنفس الشكل دائماً .. وهي تنمو في المحاليل وإذا قطعت بلورة منها إلى جزئين فإن كل جزء ينمو
محتفظاً بطابعه .
وأغلب المواد العضوية وغير العضوية لها بلورات مميزة تعرف ?ا كما يعرف الأشخاص ببصمات أصابعهم
..
الحديد له بلورات .. والنيكل له بلورات .. والسليكا لها بلورات .. والصخور _ من كل نوع _لها
بلورات ..
والذي شاهد هذه البلورات تحت الميكروسكوب يشهد أن فيها جمالاً هندسياً قد استوقفه طويلاً ..
و معنى هذا أن المادة الجامدة الميتة .. فيها حركة .. و استهداف نحو التوازن .. و النظام .. و الجمال ..
و التفرد .. و التبلور ..
و هذه الصفات تكسر السد القائم بين الحياة و الموت .. و تكشف صلاحيات الحياة في المادة الجامدة
الميتة ..
إنها لا تصبح مادة فارغة مهوشة .. و إنما تصبح منظومة لها صورة .
و الفرق بين الحياة و الموت يصبح فارقاً في درجة .. فارقاً في درجة التعقيد .. و في درجة التركيب .. و
في درجة الانتظام في صورة منفردة .
إن منظومة الحياة هي منظومة غاية في تعقد التركيب و غاية في التخصص .
و لكن إمكانيات هذه الحياة الرفيعة المتخصصة باطنة في المادة ..

و لا يعني هذا أن الحي ميت .. و الميت حي .. و إنما يعني أن الصلة غير مقطوعة بين المادة الحية و الميتة
.. يعني أن العالم متدامج في وحدة و منبثق من أصل واحد و طبيعة واحدة يعني أن الروح مبثوثة فيه كله
.. و العقل باطن في كل تضاعيفه .. بشكل جعله كله مصوراً في تراكيب و أنماط و قوالب و طرز فيها
نظام و قانون و جمال .. و مهما بلغت الفروق بين هذه القوالب و الطرز و الأنماط الحية و الميتة .. فإن
التعمق في فهمها يردها جميعاً إلى أصلها الواحد و جذعها المشترك الذي انبثقت منه .. إنه يكشف عن
تشا?ها جميعاً .. و وحد?ا الجوهرية .
إن الكون يمت لبعضه بصلة القرابة .
نحن و الشمس و القمر و الثعبان و الميكروب أولاد عمومة واحدة ..
و حينما اكتشف داروين عن تأصل الأنواع جميعها في نظريته عن التطور .. ضحك عليه الناس .. كيف
يكون القرد و الإنسان أولاد عمومة واحدة .
و لكن داروين برهن بالدراسة التشريحية أن المسألة ليست نكتة و أن التركيب التشريحي و السلوك
الوظيفي للحيوانات و النباتات و الأحياء جميعها يسلكها في عقد عائلي واحد .
و داروين لم يكن يحلم أنه بعد أن يموت و يشبع موتاً سوف يجد براهين أكثر خطراً من براهينه عن تأصل
الأنواع ..
و لكن هذا ما هو حدث .. ففي ا?ال الكيميائي ثبت أن كل الأحياء ذوات نسيج تركيبي واحد ..
كلها منظومة كربونية ..
و ثبت أيضاً أ?ا تحمل شبهاً تفصيلياً أكثر دقة .. فجميعها مؤلفة من جزيئات ذات ترتيب يساري ..
ثم كشفت الدراسة التفصيلية للذر عن تشا?ات أعمق في الكون كله .. أحيائه و أمواته .. فالكون كله
منظوم نابض هادف فيه جمال و قانون و إيقاع بديع ..
و ?ذا امتدت صلة القرابة التي كشفها داروين بين الأحياء فاشتملت على الأموات أيضاً و سلكت الكون
كله في وحدة واحدة .. و جوهر واحد .. و أصبح الفارق بين شكسبير و هو يبدع أشعاره و بين المحار
و هو يبدع صدفته و بين المادة الجامدة و هي تبدع بلور?ا الهندسية .. فارقاً في الدرجة ..
* * *
الكون هرم يتربع الإنسان على قمته .. و لكن كل حجر من حجارة الهرم مرحلة من هذا النظام البديع
الذي كان تتويجه النهائي الإنسان

و هو تتويج مؤقت .. لأن الوجود دائب على الإبداع و سوف يعلو إلى ما هو أكثر تفوقاً و نظاماً و
روحاً من الإنسان ..
إني أدرت بصري في الكون من أصغر ذراته إلى أضخم شموسه و من أدنى ميكروباته إلى أسمى مخلوقاته ..
و من ترابه إلى ذهبه و ماساته و لآلئه .. وجدت النظام .. و الجمال .
إن ابداع الله متجلي في الكون كله..

رأس النملة
حتى الوردة فيها عقل ..
اسمعوا .. هذه ليست نكتة ..
إن الوردة فيها عقل ..
وسنبلة القمح فيها عقل ..
وشجرة البلوط فيها عقل .. وإن كان عقلاً ثخينا مثل جذعها الثخين .
إن حركة زهرة عباد الشمس وهي تلوي عنقها لتتجه نحو الشمس لا تختلف كثيراً عن حركة النحلة
وهي تطير محلقةً إلى الحقل لتجمع العسل .. ولا عن معركة الإنسان الواعية وهو يطير ليقتحم المخاطر
مستهدفاً رسالةً سامية ..
أن بين الثلاثة ترابطاً حيوياً .
أن الثلاثة منظومة متصلة الحلقات الفارق بينها فارق في الدرجة فقط ..
إن حركة عباد الشمس في بساطتها .. عقل .. فما هو العقل ..
إنه قدرة تصرف وتكيف البيئة ..
إنه في كلمات قليلة بسيطة .. القدرة على اتخاذ موقف انتقائي أكثر ملائمة للحياة في كل لحظة ..
والزهرة حينما تلوي أوراقها نحو الضوء تتخذ موقفاً انتقائياً أكثر ملائمة لحياتها .. يبدو إنها تتحرك حركة
عاقلة ..
ومعنى هذا أن العقل ليس شيئاً جديداً في الإنسان .. إنه في الطبيعة الحية كلها ..
كل الفرق أن الإنسان لديه وسائل أكثر يتصرف ?ا ويحتال ?ا على بلوغ أهدافه ..
الإنسان بحكم كونه مخلوقاً معقداً يملك أجهزة متعددة كل منها على درجة فائقة من التخصص .. فهو
يملك يدين فيهما عشرة أصابع .. ويملك لساناً ناطقاً .. ويملك عينين مبصرتين وأذنين حادتين .. وبشرة
حساسة .. وأنفاً شماماً . وكل هذه الأجهزة في خدمة عقله ..
الإنسان عنده عشرة آلاف فدان من المواهب وعمارات من الأعصاب والحواس المرفهة

وهو لهذا ظلم نفسه وظلم غيره من المخلوقات حينما اعتبر نفسه الوحيد العاقل بينهاً .. وهذه خرافة
إقطاعية غير صحيحة .
العقل باطن كامن في كل الطبيعة الحية ..
ومنذ أن نبضت الحياة في الأميبا الحقيرة ذات الخلية الواحدة وحركة هذه الأميبا فيها كل الحذر
والتلصص والخبث وسوء النية التي في الإنسان .. لا جديد في الإنسان .. وإنما هناك التكامل فقط .
* * *
و النفس ..
ما النفس ..
ما الغرائز ..
إ?ا الحوافز البدائية التي كانت تحفز الحيوان ليسعى في حياته ومعاشه ..
إ?ا الحوافز البدائية التي كانت تحفز الحيوان ليسعى في حياته و معاشه ..

و هي نفس الحوافز التي نشأت منها الحوافز العصبية المتعددة في الإنسان .. الطمع و الخوف و الجزع و
الغضب و الكراهية و الحب .. و هي مثلها .. مجموعة إشعارات و إنذارات عصبية عن حاجات البدن
الملحة الضرورية .
و عيب فرويد أنه وقف عند هذه الإشعارات و الغرائز و الحوافز و اعتبرها مفتاح شخصية الإنسان و
مفتاح سر الحياة و لغزها ..
الحياة لا يمكن تفسيرها بأ?ا رد فعل غريزي لطلب الطعام و الجنس و لا يمكن تفسيرها بأ?ا تصرف
منطقي للتكيف بالظروف .
هذه صفات في الطبيعة الحية .. و لكنها ليست مفتاحاً لسرها ..
الحياة ليست محفوزة من الخلف .. و ليست منخوسة من ورائها بمنخس الغرائز .. و إنما هي واثبة متطلعة
إلى الأمام بفطرة إرشادية عالية ة بعاطفة مبثوثة في خلاياها و أعصا?ا و قلبها .
الحياة ليست مدفوعة من الماضي .. و لكنها مرتمية في المستقبل بفطرة توجيهية باطنة فيها ..
الحياة ليست مقهورة بقضاء محتوم بدفعها من خلفها .. و إنما هي رشيدة مختارة بصيرة تنتقي لنفسها على
الدوام ناشدة هدفها في الغد .
إن فيها مثيرات باطنة ترتفع فوقها نفسها .. إ?ا تتحرك بكامل صحتها و شعبها طالبة مستوى فوق
مستوى حيا?ا الروتيني المتكرر المتشابه .
إن حب الجمال و الخير و الحق هو في النهاية أحد المثيرات و المغريات المتأصلة في الصميم الحي .. و ليس
هناك فارق بين قدرة شكسبير على إفراز الأشعار .. و قدرة المحار على إفراز اللآلئ .. و قدرة خلايا
الفراش على رسم الزخارف البديعة الجميلة على واجهة أجنحته ..
إن الفراش لم يكن بحاجة حيوية ملحة إلى رسم هذه الزخارف .. فالأجنحة كان باستطاعتها أن تقوم
بوظيفتها بكفاية و مهارة دون أن تكون منقوشة .. فما السر في نقشها ..
إذا قلنا أ?ا مثيرات جنسية و أن الأنثى تتجمل للذكر .. فإن السؤال يظل مطروحاً .. ولماذا يختار الذكر
الأنثى الأجمل .. إن الجمال سيظل يفرض نفسه كهدف .
و السر هو نفس السر الذي جعل شكسبير يتغنى بالشعر .. إنه ليس أكل العيش و إنما هي مثيرات الجمال
.. و مغريات الإبداع في طبيعة شكسبير .. و في طبيعة الفراش .. و في الطبيعة الحية كلها ..
في جرثومة الخلية الأولى بذرة كل هذه الأسرار الجمالية .. الخلية التي بدأت حيا?ا بنشدان درجة معينة
من الحرارة و الجو و الغذاء ملائمة لانتعاشها و تكاثرها كانت تضمر في جوفها غايات أبعد و هي ما
لبثت بعد أن ملكت ناصية حيا?ا في عقل الإنسان أن أفصحت عن هذه الغايات البعيدة فبدأت تنشد
الجمال و الحق و الخير و العد و السلام ..
إن المثل العليا تحت الجلد ..
و القيم الرفيعة في نسيج البروتوبلازم ..
و تفسير الإنسان على أنه جسم فقط .. أو نفس فقط .. أو عقل فقط خال من مثيرات الروح و
الوجدان .. تفسير ناقص يهبط بالإنسان إلى مستوى عداد منطقي و آلة حاسبة رياضية و يسلب الوجود
الإنساني نكهته و طعمه و حرارته .
إن زهرة عباد الشمس .. حتى زهرة عاد الشمس .. تتطلع إلى الشمس ..
و نبات الصبار .. حتى نبات الصبار .. تخرج تصانيف جميلة كأ?ا منحوتة بيد حات فنان عاكف على
ابتكار أفانين الجمال ..
و النحلة .. حتى النحلة تبني بيتها في معمار هندسي بديع .. طبيعية متفننة عاقلة متطلعة حالمة ..
و المثل العليا و الأهداف و الأحلام و المأمولات الراقية الرفيعة ليست أشياء انفرد ?ا الإنسان .. إ?ا في
الصميم الحي كله ..

و نحن من فيضان هذه الثروة علينا .. بدأنا نفيض بقدراتنا على البيئة حولها .. و نبث فيها نظاماً و قانوننا
و نخلق منظومات و أنماطاً جديدة .. فنبني البيوت و الأبراج و المدن و المصانع .. و نبتكر عمارات من
الشعر و النغم و الألوان .. و نخترع شرائع و قوانين و دساتير و نظماً .. و نسينا في غمرة هذا الطوفان
من الثراء .. إن كل هذه النعمة هي التركة التي انحدرت إلينا من أجدادنا الحيوانات .. و أ?ا قبل أن تصل
إلى رأسنا .. كانت في رأس النملة .. و كانت في لحاء الشجرة .. و كانت في لباب الإسفنج .. و في
عصير الصبار المر ..
و هذا يعني أن معجزة الحياة ليست في مخلوق بعينه .. ولكنها في النسيج الحي نفسه .. أينما كان هذا
النسيج نباتاً أو حيواناً أو إنساناً أو خلية تدب في مستنقع ببطء و عماء دون أن ترى و دون أن تسمع ..
في البروتوبلازمة .. في هذه الجيلاتينة الهلامية كأنها الماظية مرشوقة بالسمسم و الفستق ..
و الذين شاهدوا البروتوبلازمة تحت الميكروسكوب يعرفون أنها تتحرك و أن حبات السمسم و الفستق
فيها تدور و تدور حول بندقة صلبة في وسطها هي النواة .. و أيضا أحياناً لها جدار يحفظها . و أحياناً لا
يكون لها جدار .. و إنما تكون بضعة هلامية سائبة رخوة تتلوى كبقعة زيت سميكة في الماء ..

يتبع

Harmman420
السبت أغسطس 13, 2011 2:08 amHarmman420

س
أنا س 3 وأنت لوغاريتم س 19
اكتشفنا أثناء هذه المرحلة من التفكير والتأمل.. أن الإنسان كائن مركب.. وأنه ليس شيئاً بسيطاً محدداً
مثل الكرسي والمائدة والمحبرة وإنما هو حقيقة نامية متطورة تتقرر كل لحظة.. تتقرر من الداخل.. بإرادة
خاصة.
وإنه يمكن أن يعيش على مستويات عديدة.
يمكن أن يعيش حياة كثيفة غليظة منحطة كحياة النباتات.. كما يحدث أثناء النوم.. فيتضاءل إلى مجموعة
وظائف تحدث في آلية وتلقائية بدون وعي..
ويمكن أن يعيش حياة ثرثارة مألوفة مبتذلة .. تقوده أفكار جاهزة و عادات موروثة و تحركه تقاليد قديمة
متبعة .. و تصدر أفعاله مضبوطة بمواعيد يحددها له الناس بالساعة و الدقيقة .
و يمكن أن يعيش حياة عميقة يرتد فيها إلى نفسه و ينقاد لأفكاره و رغباته و يحيا في زمنه الخاص و
توقيته النفسي الصادر عن إرادته و عاطفته .. و في هذا المستوى تكون حياته أصلية .. و تكون أفعاله
مدلولات مباشرة لشخصيته ..
و يمكن أن يبلغ أعمق أعماق وجوده في لحظة الحب .. و لحظة التأمل و لحظة الإبداع .. و لحظة
التصوف .. فينفتح شعوره على إحساس بالدوام و الأبدية .. و يتذوق لحظة غريبة لا زمنية .. لا
شخصية .. لحظة عميقة .. تذوي كل اللحظات و تنتهي كل الأيام و تنصرم السنين .. و تبقى تلك
اللحظة شاخصة في ذاكرته عالقة بوجدانه ..
هذا الشعور يدل على أن الإنسان مفتوح من الداخل على وجود نوع آخر غير الوجود الخارجي الجامد
المحدود الزمني الآلي الذي يرسف في الحتمية و القوانين .. وجود حر يتدفق في لا مكان و لا زمان و
يصدر عن لا أسباب .. وجود تقويمه فيه .. و أسبابه فيه .. وجود تصدر عنه الإرادة و الشخصية و
السلوك و الفعل .. و يبدو العالم الواقعي جزءاً منه و نتاجاً من نتائجه ..
وجود عميق مثل النبع الخفي تضرب فيه جذور الإنسان و أعصابه و تستقى منه وجودها و إحساسها
بالحقيقة .. و إحساسها بالاستمرار في دوامة الواقع المتقلب المتغير .. و تستمد منه الشعور بأرض ثابتة

وسط هذه الظواهر المفككة التي تبرق و تختفي .. و تستمد منه الثقة بأن هناك أماناً .. و سكينة و
طمأنينة ..
وجود أبدي تبدو فيه الحياة الزمنية حقيقة ?رد أ?ا مستمدة منه منتمية إليه .
و النفس لائذة على الدوام ?ذا الوجود الداخلي .. لاجئة إليه .. من القلق و خراب الأعصاب الذي
يحدثه الواقع المادي بتقلباته و تغيراته .
و هذا هو وجود ال أنا المطلق .. أو الأبدية .. أو الحقيقة أو الروح ..
و لا أقصد الروح بمعنى الشخصة .. فهذا الوجود غير شخصي .. و هو أعمق من أن يكون شخصياً ..
و أعمق من أن يكون متعيناً محدداً .
إن الواقع المتعين المقسم إلى حركات و انتقالات في الزمان و المكان .. هو واقع الزمان و المكان .. واقع
الظواهر فقط .. أما الوجود الداخلي فهو وجود جوهري لا يقبل القسمة و لا يقبل التعدد .. إنه حقيقة
كل هذه الظواهر و ينبوعها .. و هو منبع الشخصية و لكنه أبداً ليس الشخصية .
و الحقيقة بسيطة وواحدة و كل ما نشاهده حولنا من تعدد و تباين و اختلاف غير حقيقي و ظاهري و
مؤقت .. بدليل أنه يمت إلى بعضه .. و ينتمي إلى بعضه .. و يخفي تحت تعدده الظاهر وحدة أصلية ينبع
منها ..
و قد اكتشفنا أثناء هذه الرحلة الفكرية أن كل المخلوقات هي مجرد تصانيف و تواليف مختلفة من مادة
واحدة هي البروتوبلازم ووحدات دقيقة متراصة هي الخلايا .. كلها تصانيف و تواليف من (س) .. و
س هذه أشبه بالمادة عند ماركس و الهيولا عند أرسطو .. إ?ا الخامة الأولية التي بنيت منها الدنيا .
و حتى صنوف المادة الميتة هي الأخرى تواليف مختلفة من مفردات بسيطة هي الإلكترونات و البروتونات
و هي شحنات سالبة و موجبة من الطاقة .. مرة تبدو هذه الطاقة في شكل حرارة .. و مرة في شكل
ضوء .. و مرة في شكل كهرباء .. و مرة في شكل مجال مغناطيسي .. و مرة في شكل حركة .. و مرة
في شكل حياة .
و العناصر المختلفة من رصاص وصوديوم وحديد ونحاس وكبريت ما هي إلا تواليف مختلفة من هذه
الإلكترونات والبروتونات .. وفي الإمكان تحويل عنصر إلى آخر بتغيير توليفته الذرية .
إن كل التباين والمفارقة والاختلاف بين الموجودات هو اختلاف هو اختلاف شكلي ظاهري قابل
للاختزال في النهاية إلى أصل بسيط واحد مشترك

إن في باطن هذا الكون حقيقة واحدة بسيطة .. جوهراً واحداً .. جذراً نبت منه كل فرع من فروع هذه
الشجرة .. وكل فرع حقيقي بقدر ما يفصح عن أصله .. وبقدر ما يحمل طابع وراثته في خلاياه
وأزهاره .
حتى الكواكب والنجوم والشهب والمذنبات ما هي إلا تصانيف مختلفة من المادة نشأت من سحب من
الذرات والغبار كانت سابحة في الفضاء .
الوجود منتجات لا ?ائية .. وصور لا ?ائية من أصل واحد وحقيقة واحدة بسيطة أزلية محتواها غنى لا
?ائي .. يتخلق في قوالب لا حصر لها .. وتعدد المخلوقات والموجودات هو الدال على هذا الثراء والغنى
اللا?ائي .
والتعدد هو تعدد في الواقع وفي الظاهر وفي العالم المرئي .. لكن الخامة الأصلية واحدة .. بسيطة.. وإنما
الأشخاص هم الذين يتعددون.. كل شخص هو بذاته توليفة فريدة من هذه الخامة الواحدة .. ولكنه فإن
في النهاية ..
وكل متعين فإن..
وكل موجود في الزمان والمكان فإن ..
كل شكل وكل ترتيب ينهدم كما تنهدم عمارة مبنية من الطوب والجير والأسمنت .. لكن يبقى المشروع
.. يبقى الرسم الهندسي والتصميم الأصلي الذي أقيمت العمارة على وفاقه.. وهو ((الصورة)) عند
أرسطو .. والروح عندنا .. ال أنا المطلق في الفلسفة .
وهذا الرسم الهندسي والتصميم الأصلي من إبداع الخالق ومن روحه ونفحة منه ولهذا لا يموت.
وهذه الروح.. وهذا ال أنا المطلق .. الذي ليس شخصاً بالذات .. ولا نفساً بعينها .. هو الذي يهمس
في داخلنا بدهشة حينما يرى الموت .. ولا يصدقه .. ولا يعبأ به .. لأنه غير ذي موضوع بالنسبة له..
ونحن حينما نفزع من الموت.. نفزع على هذا ال أنا المطلق .. على هذا الإحساس العزيز الحميم الذي
يربطنا بالواقع وبنفسنا .. ولا موجب للفزع.. لأن هذا المطلق في منطقة أبدية لا موت فيها.. ولا تغير ..
ولا تبدل .
إن الذي يموت فينا.. هو ما يموت كل يوم.. ويتغير كل يوم .. أجسامنا.. نفوسنا.. شخصيتنا.. كل هذا
يموت.
لأنه يموت بالفعل .. يموت بالحياة.. ويتغير.. ويتبدل.
أما الروح.. أما ال أنا المطلق.. فهو حي أبدا.
نحن مفتوحون من الداخل على هذا الواحد المطلق..اللاشخصي..اللامكاني..اللازماني..

وبالنسبة لهذا ال أنا المطلق..لا معنى للموت أو الفناء أو التغير..أو التبدل..
إنه كتر لا ?ائي.وثروة مطلقة..تصدر عنها أفعالنا وأشخاصنا وحياتنا..ثم نموت..ونشبع موتاً..ويبقى هو
في عالم الروح الذي انبعث منه.
ولأننا مفتوحون من الداخل على هذا المنطلق..يداخلنا الوهم بأننا نحن أيضاً لن نموت..
* * *
وهذا هو الالتباس الحقيقي الذي نقع فيه بسبب حياتنا المزدوجة..وطبيعتنا المزدوجة من جسد وروح.
إننا كنبضات منفعلة يخيل لنا أن لنا كياناً حقيقياً مستقلاً عن القلب الدائم.
إن صدورنا من الروح الخالدة وانتماءنا لها بحكم الوصل يوقعنا في هذا الوهم..ولكننا فانون..ونحن في
حالة فناء متصل حتى ونحن على قيد الحياة..وخيط الكينونة الذي يربط لحظاتنا ويمسك بتحركاتنا
المفككة في المكان..هذه الوحدة المتجانسة التي تسري فينا وتمسك بوجودنا غير المتجانس ليست من عالم
الزمان ولا من عالم المكان.. وليست من العالم المشخص المتعين..وليست منا بقدر ما نحن منها.
وهي وحدة ليست بذا?ا معينة..وإنما هي سياق مطلق غير متعين..سياق يضم كل المواقف التي نقفها في
حياتنا يضمها فيما يشبه ال أنا المطلق الذي هو روح كل منا والذي هو شرارة من الروح الإلهية العظمى
التي هي ينبوع الخلق والتي صدر عنها الكل وإليها يعود.
ولهذا نرى أن كل أشكال الوجود تمت إلى بعضها بصلة القرابة..هناك صلة رحم تجمعها جميعاً في خامة
مبدئية واحدة.
وعملية التبادل التي تحدث بين صنوف الموجودات في كل لحظة تكشف عن هذه الصلة العائلية
بينها..النباتات تأخذ من الأرض أملاح الفوسفات و النترات وتأخذ من الهواء مركبات الكربون وبخار
الماء..ثم تحول هذه المواد المعدنية الميتة إلى أنسجة حية خضراء مثل أنسجتها.
والحيوان يأكل أنسجة النبات ويحولها إلى لحم ودم وعظم وعضلات ثم هو في النهاية يموت ويتعفن
ويتحول إلى تراب وأملاح معدنية ترتد للأرض الأم.
هذه الحلقة الدائرة تكشف عن الخامة المشتركة التي تخلقت منها كل هذه الأشكال المتعددة.
وبالرغم من الخلاف الهائل في المرتبة الحيوانية بين النمر المتوحش المفترس وبين الإنسان الرقيق الوديع
العاقل..فإن النظرة التي يتبادلها الاثنان في حلقة السيرك..نظرة مروض الوحوش إلى الوحوش وهي راكعة
عند قدميه..تكشف عن ذلك الشيء المشترك الذي يجمع الاثنين في رابطة خفية من الود والتعاطف.

بالرغم من كل الوحشية التي في النمر..وكل الوداعة التي في الإنسان..يلتقي الإنسان في لحظة تعاطف
وحنان..وكأ?ما تعارفا منذ الأزل..حيث الخالق واحد ومادة الخلق واحدة.
وهكذا من خلف كل العيون يطل علينا جلال الخالق أقرب إلينا من حبل الوريد.
* * *
الواحد الصحيح مختف وراء التعدد..والشبه الأصيل مختلف وراء الاختلاف..و الارتباط الحميم مختف
وراء التفكيك الظاهر.
والوجود كله أنشودة طويلة من ملايين الكلمات تفصح عن روح إلهية خالدة..وعن معناها
اللا?ائي..وثرائها الممتلئ أبدا بالإمكانيات.
والموت معناه أن الخالق يقول لنا:
وعندي المزيد..وعندي إمكانيات أخرى لا تنفذ..انظروا..ها كم شيئا آخر تماما..ها كم مفاجأة
أخرى..ها كم مولد طفل جديد..

الواحد الصحيح
كلنا من أب واحد
آخر واحد في الدنيا هو الواحد الصحيح .
فهو يمكن أن ينقسم إلى اثنين ثم إلى أربعة وثمانية وستة عشر واثنين وثلاثون ... وأربعة وستين ، الخ ،
الخ
إلى ما لا ?اية فيعطيك كل الأرقام التي خطرت في وتخطر في بذهن عمالقة الحساب من أيام إقليدس
وفيثاغورس إلى اينشتين .
انه واحد صحيح وبسيط ولكنه يحتوي في باطنه على جميع الأرقام وعلى اللا?اية .
وقد بدأت الحياة بواحد ... خلية واحدة انقسمت فأصبحت خليتين ثم أربعة ثم ثمان ثم ألوفاً وملايين
وبلايين تنوعت حسب البيئات و الظروف وخرج منها كل ما نرى حولنا من زواحف و طيور
وفراشات وديدان وقردة و آدميين .
وقد بدأ الكون بغار بسيط واحد هو الآيدروجين .. هو الذي يشتعل الآن في باطن النجوم ليعطينا النور
والدفء مع أشعة . الشمس كل صباح ..
ومن الآيدروجين في باطن الأفران النجمية الهائلة جاء الحديد والنحاس والذهب والقصدير والرصاص
والكربون والسلكون والزئبق واليود وكافة العناصر التي نراها متحدة ومنفصلة حولنا على شكل
مركبات وموارد أولية وصخور ورمال .
ومن عجب أن ذرة الآيدروجين هي الأخرى لا تحتوي إلا على بروتون واحد وإلكترون واحد يدور
حوله .
وكل ما يحدث في باطن النجوم أن هذه الذرة تتفتت لتعطي الضوء والحرارة والإشعاع ويعاد تركيبها في
4 ... وكل مرة يخرج + 3 ومرة ثالثة 1 + 2 ومرة أخرى 1 + أشكال جديدة ونسب جديدة ... مرة 1
عنصر جديد إلى الوجود .

وما نرى حولنا على الأرض من تصانيف الغازات والسوائل والجمادات ليست إلا هذه التآليف التي
نشأت كلها من قسمة واحد صحيح اسمه ذرة الآدروجين .
وأنت واحد صحيح تبدو في نظر نفسك صغيرا ومحدودا ولكنك تستطيع أن تستوعب أنت المشاعر
والمدركات والمعارف ما لا حد له فأنت أصغر من العالم بكثير ومع ذلك تحتوي على العالم في داخلك
وتتصوره وتتخيله وتراه..
على شبكية عينيك ترتسم صورة واضحة ودقيقة للشمس والقمر والنجوم وا?رات .
وفي عقلك تختصر هندسة الكون إلى شفرة جبرية ومعادلات ورمز وأرقام . وهي أرقام تثبت لنا كل
مناسبة أ?ا أرقام صحيحة ..
ما يتخيله الحاسبون على الأرض من معادلات تثبته سفن الفضاء والصواريخ والأقمار وتبرهن على صحته
المراصد وأجهزة الرادار .
إن ذلك الواحد الذي هو أنت .. هو فعلا مشتمل على هندسة الكون وسره ومفاتيحه ومغاليقه في داخله
..
أنت الواحد والمحدود تحتوي على نموذج مصغر للا?اية في داخلك ..
وكل ما في الوجود من ظواهر ونبات وجماد وحيوان وإنسان هي في الحقيقة أجزاء الواحد الصحيح ..
والشر والخير هما كالظل والنور في لوحة واحدة كل منهما مكمل للآخر وضروري لوحدة اللوحة .
كل منا لحن و جملة موسيقية في سيمفونية متكاملة ..
الألم هو إحساس الانفعال .
العذاب هو إحساس الانفعال .
أنت تتألم حينما تنفصل في أنانية عن الكل وتنسى انك حرف وسطر في آية الوجود الكبرى أما إذا
توجهت إلى الوجود في شعور حميم بالنسب والقرابة فانك ستشعر انك تستطيع تؤاخي الأسد وتصاحب
ضباع الغاب وتروض الثعابين والأفاعي فتلهو معك وتلهو معها وكأ?ا عائلتك ..وذلك أن الوجود كله
ما هو إلا الوجوه المختلفة للواحد الصحيح ...
كلنا أقربون ..
أنت القاتل والقتيل ..
أنت الذئب والفريسة ..
أنت الطاعن والطعين ..
وما فواصل المكان والزمان إلا وهم الأوهام.
وعليك بعين وجدانك إن تخترق هذه الفواصل الوهمية لتكشف الأخوة و النسب والقرابة بينك وبين كل
شيء .. ولتكشف أن حياتك الحقيقية هي في فنائك في هذا الكل الذي تعيش فيه .. لأنك ?ذا تسترد
وحدتك وحقيقتك .
أنت أحد آحاد الأحد الأكبر ,وما تعلن من حروب هي حروب تعلنها على نفسك , وما تقتل حين تقتل
إلا نفسك .
وما الحب الذي يؤلف السر والقبائل وا?تمعات والدول إلا محاولة للعودة ?ا إلى الوحدة .
وما الجاذبية بين النجوم التي تؤلف ا?رات والكوكبات إلا عودة بالكل إلى نظام الواحد .. وفي النهاية
الموت الذي يعيدنا ترابا إلى أمنا الأرض ليتغذى علينا النبات كما كنا نتغذى عليه وليصبح الأكل منا
مأكولا .. تذكرة لنا بالحقيقة ..
والنار التي تأكلنا جميعا وتحيلنا إلى فحم , الأشجار فحم .. والثعابين فحم .. والقردة فحم والآدميون
فحم .. وكل الحياة فحم .. إشارة إلى أصلنا الواحد .. فما الحياة سوى تصانيف مادة واحدة هي
الكربون ..
كل تغيير يعود بصورنا المتعددة إلى الواحد الصحيح .. هذه الظواهر المتباينة المختلفة تعود في النهاية إلى
وحدة بسيطة ..
وكما قلنا قبلا أن الكائن الحي مئات الأنواع من النسجة جلد وأظافر وشعر وأسنان وعضلات ومخ
وكبد ودم وألياف وكلها تحورات خلية واحدة بسيطة هي خلية جنين ..
ومن الأرض وفي حقل واحد يعطي الطين الواحد ألف صنف وصنف من الفاكهة والخضروات والزهور
والطحالب والباكتيريا ..

من الواحد يخرج الكل ..
والى الواحد يعود الكل ..
وكما تبدأ بعود الكبريت إلى جوار عود كبريت إلى جوار عود كبريت فتصنع مثلثا ومربعا ومستطيلا
ومسدسا ثم هرما ثم مكعبا ثم أشكالا مختلفة من المعمار .. كذلك الوجود المعقد حولك يرتد إلى وحدة
بسيطة هي الذرة دخلت في تواليف وتراكيب لا آخر لها وأنتجت ما ترى من ظواهر مختلفة متباينة
تتناقض وتتحارب وتأكل بعضها وتقتل بعضها وهي في النهاية من أب واحد .
واحد صحيح ...
الحياة والممات .. والسوائل والجمادات والغازات .. والإشعاعات .. مصنفات شيء واحد .. الفرق
بينها فرق نسب وعلاقات وكيفيات .
ذرتان من الأكسجين تعطيانك ذلك الغاز اللطيف الذي تتنفسه .
وثلاث ذرات من الأكسجين تعطيك سما زعافا قاتلا اسمه الأوزون ؟
بل إن نفس الذرتين إذا بتشكيل وكيفية مختلفة تعطيان مادة مختلفة ؟
الاختلاف في الماهية يرتد في النهاية إلى خلاف في التشكيل والكيف والكم .. في النسب والأرقام
والعلاقات .
الفرق بين السكر والنشاء هو فرق في ترتيب وعدد الذرات الداخلة في تركيب الاثنين ولكن الاثنين من
مادة عضوية واحدة هي الكربوايدرات .
والفرق بين سم الثعبان وبين طبق شهي من البيض المقلي فرق شكلي في معمار الذرات .. فالاثنان
كلاهما مادة واحدة هي البروتين ..
والكون شيء واحد يعاد صبه وسكبه في قوالب وأشكال وتراكيب لا حصر لها ..

والأصل واحد صحيح ..
الفرق بين شكسبير والبواب الذي يقف على باب بيتك والكلب الذي يهز ذيله أمامك .. والقملة التي
تمرح في رأسه.. هو الفرق في النسق و الترتيب والكيفية التي تصتف فيه الأحماض الآمينية في الجينات
الوراثية .
انه فرق في مادة واحدة اسمها د . ن . ا (حامض ديزوكسي ريبونيوكلييك ) تتألف من واحد وعشرين
حمضا حمضاً آمينياً يمكن أن تصطف بطريقة أو بأخرى كما تصطف الحروف فتؤدي إلى مخلوقات
مختلفة كما تؤدي الحروف إلى كلمات مختلفة وعبارات متباينة ..
انه فرق شكلي كيفي .. وفرق في النسق .. وفي الصياغة لمادة واحدة .. إننا أمام خالق مبدع إبدع
تصميمات (أرواحا) صيغت على وفا?ا مواد أولية واحدة إلى ما لا ?اية من الفرديات .
وكما أن 26 حرفا أبجديا أمكن أن يؤلف منها ملء مكتبات الأرض من اللغات والعلوم والمعارف
والفنونو الحضارات بمجرد تباديل وتوافيق بين الحروف .. كذلك صانع الحياة أمكنه بالتباديل والتوافيق
بين الأحماض والتوليف بينها في تصميات مبتكرة أن يصنع من المادة الواحدة التي اسمها د . ن .ا كل ما
يدب على الأرض من فضائل وأنواع وأجناس وأفراد من شكسبير إلى الميكروب بكافة صنوف الحيوان
والنبات التي تأكل بعضها وهى في إلا صل واحد ..
وعلماء الطبيعة يقولون لنا أن الفرق بين ما نرى من ألوان حمراء وخضراء وصفراء وزرقاء هو فرق في
أطوال موجات الضوء .. مجرد فرق رقمي ...
والفرق بين أشعة الضوء وأشعة إكس وأشعة جاما القاتلة وأمواج اللاسلكي التي نسمع ?ا الراديو هو
أيضا فرق في الأطوال الموجية .
أشعة الضوء تقدر أطوالها بالميكرون وأجزاء الميكرون .
وأمواج الرادار بالملليمتر ..

... أما الظاهرة نفسها فهي ظاهرة واحدة اسمها الأمواج الكهرطيسية .
والنتيجة مريحة جدا وسارة , ومثيرة للتفكير والدهشة بقدر ما هي سارة .. فالفرق بيني وبينك وبين
الحمار وبين قالب الطوب هو في النهاية فرق حسابي في الكم وفرق في نوعية الترتيب .. فرق يمكن أن
يعبر عنه بالأرقام ما دامت مادة الوجود (حيا ميتا ) يمكن أن ترتد ببساطة شديدة إلى أصل واحد
ولنسمه س .. فيكون الحمار هو الجذر التربيعي ل 343 س وتكون سيادتك لوغارتم س ص 91
وأكون أن س ص ع 3.. حيث تكون ص, ع رموز للعوامل الكيفية ا?هولة التي تقابل عندنا الروح
والعقل والضمير .
العالم كله تشكيل من مادة واحدة .
وما نرى حولنا أنماط فن تشكيلي .. وحاصل ضرب وطرح وجمع وقسمة شيء واحد ..
وبقدر ما يمكن أن ينقسم الواحد .. وبقدر ما يمكن أن تنضاف الأجزاء لتؤلف فيها فيما بينها مجاميع
وكسور وجذور ولوغارتمات .. وبقدر ما يمكن إن يدلك علم حساب المثلثات وحساب التفاضل
والتكامل على الاحتمالات اللا?اية التي يمكن أن تنتج عن هذه العمليات الرياضية تكون صورة الكون
الذي تراه أمامك وتكون حقيقته .
مجرد كميات وكيفيات ومقادير وحدود رياضية وأطوال يقسمها الزمان والمكان إلى الصورة التي تراها
?ا .
وأنت تضحك الآن وتتساءل .. كيف يمكن اختزال العالم بكل مباهجه وألوانه النابضة إلى مجرد شفرة
رياضية .. ومع ذلك أنت تسمع كل يوم إلى الموسيقى وتطرب و?تز وتنتشي , مع أن هذه الموسيقى
ليست في الحقيقة إلا سباقا من الأرقام .. مجرد تتابع من الذبذبات يتفاوت ارتفاعا وانخفاضا وشدة
وضعف وهي بحساب الموجات الصوتية التي تطرق طبلة الأذن مجرد اهتزازات تتفاوت في المقدار .. في
النهاية أرقام .. وكيفيات .. المعمار الموسيقي هو معمار هندسي رياضي في المقام الأول .
انه رسم في الفراغ ..
كل مقطوعة موسيقية معدلة رياضية لها قوانينها

ومع ذلك فأنت تنفعل بالغروب كصورة جمالية مع انه معادلة رياضية من الأطوال الموجية .. وبالمثل يمكن
أن يكون المار هو واقع الأمر ((الجذر التربيعي ل 343 س )) مع انك ترى شيئا مختلفا .. مخلوقا له رأس
وأذنان طويلتان وذيل , فهكذا تترجم لك حواسك بلغتها الخاصة ما ترى من معادلات رياضية وأرقام
مجردة ..
وجهاز الإرسال التلفزيوني حينما يرسل صورتك عبر الأثير إنما يرسلها على هيئة أمواج يلتقطها الاريال
لينقلها إلى جهاز الاستقبال على هيئة نبض كهربائي يتفاوت شدة وضعفا .. مقادير من الطاقة هي في
?اية الأمر المعادلة الرياضية لصورتك .. وما يفعله جهاز الاستقبال (وهو نفس ما تفعله الحواس حينما
ترى منظر
الغروب ) هو أن يترجم هذه المقادير من النبضات الكهربائية . يترجم هذه المعادلة الرياضية إلى مقابلها
من الظل والنور على شاشة جهاز الاستقبال فتعود صورتك إلى الظهور بالشكل الذي عرفتها به
(ولكنها قطعا كان لها شكل آخر وهي على الأثير .. كانت حينئذ أمواجا .. كانت معادلة مجردة من
الحدود الرياضية والمقادير والكيفيات . )
فالعالم إذن له صورتان (وفي الحقيقة صور عديدة بقدر ما تتفاوت وسائل الحس ).
صورة هي التي نراه ?ا
وصورة تقول ?ا الكميا التحليلية والطبيعية والتشريح وهي أرقام ومقادير وكيفيات وعلاقات ترشدنا
إليها أدواتنا ومقاييسنا .
وصورة مجردة هي النسق الأصلي وهي أشبه برسم فراغي أو مثال هو الذي خلقه الخالق ابتداء وهي
الروح ..
لكل مخلوق روح .. هي المثال والنسق الأصلي الذي صيغ عليه .
وهو تقريب وتبسيط فيه كل أخطاء التبسيط والتقريب .. لأنه يحاول أن يتلمس ويشخص ويجسد ما لا
يمكن تجسيده بالكلام .. فحينما يصل الفكر إلى منطقة الروح فانه يصاب دائما بالصم والخرس فلا يجد
اللغة التي يستطيع أن يشرح ?ا إحساسه .

إن وحدة النسيج بين الموجودات حقيقة مطلقة .
ولكنها وحدة لا تنفي تفرد هذه المخلوقات وانفراد كل منها بشخصيته و وخصائصه .
بل إن هذا التفرد يبدو في الإنسان تفردا مطلقا ليس فقط في النمط السلوكي والشخصية والنفس وإنما
حتى في التشكيل البنائي المادي .. فنرى كل إنسان قد انفرد ببصمة أصبع خاصة به لا يتشبه اثنان في
هذه البصمة حتى ولو كانا توائم .
ومنذ بدء الخليقة وكل واحد من ملايين الملايين من الآدميين له بصماته الخاصة به .
هذا الانفراد المطلق في الجسم والنفس لكل إنسان ولكل مخلوق هو حقيقة أخرى تنضاف إلى الوحدة
المطلقة التي صدر عنها الكل .. د
بل إن النسيج الحي ليتفرد لدرجة انه يرفض أي رقعة من جسم آخر .. فيرفض الجسم قلبا أو كبدا أو
كلبة تستعار له من جسم آخر لإنقاذه .. ويموت مفضلا أن يكون هو هو .. على أن يعيش برقعة من
جسد آخر ..
إن تفردنا حقيقة مطلقة .
كما أن صدورنا من أصل مشترك حقيقة ثانية
إننا نخرج من الواحد ..
ولكننا نعود فيتوحد كل منا ليصبح ((نسيج وحده )) لا يتكرر ولا يشبهه شبيه .
بل إن قصة الحياة هي في ملخصها خروج هذه الشخصية الفردانية المتمايزة من عماء مادة متجانسة
كالطين و الماء .
واكتشفنا للواحد الصحيح خلف تصانيف الحياة يجب إلا يحجب عنا هذه الفردانية والتفرد ولا أن
يخفي عنا أصالتنا كأفراد .

وهي فردانية ذات معنى .. فكل منا بعد إن خرج من الواحد الصحيح قد عاد بدوره محاولاً أن يصبح
((واحداً صحيحاً )) في ذاته له أصالته الخاصة المتميزة .
وهذه الصورة الجسدية المتفردة هي التعبير الخارجي لتفرد الروح الداخلية وأصالتها .
إن تفرد القالب هو التعبير الخارجي لتفرد المحتوى
تفرد الشكل يدل على تفرد المضمون .

الروح
إذا كنت أنا الجوع فكيف أتحكم
بالجوع .
من أنت...
من أنتم...
من نحن...
من باب التبسيط الشديد يقول الماديون ما نحن الا أجسادنا نحيا .. ونموت ..ثم لا شيء بعد .. ولا شيء
قبل..
الأجساد التي كانت..والتي تكون الآن .. سوف تتحلل غداالى تراب.. ثم تنتهي القضية فلا شيء في
الدنيا سوى ا
مادة.
في البدء كانت المادة ثم تطورت ثم أصبحت إنسانا .. وغدا يموت الإنسان ويسدل الستار على الفصل
الأخير من المسرحية.. هذه حقائق موضوعية .. فلنكن موضوعيين .. فلا وجود الا لما هو موضوعي ..
والجسد شيء موضوعي جدا قابل للدرس والفحص والتشريح.
هذا هو الحل السهل.. السهل جدا..
والقائل هنا لا يكلف نفسه حتى ولو نظرة تحت الجلد.. حتى ولو نظرة إلى داخل نفسه
فإذا قلت له أن الجسد ليس الإنسان وان داخل الجسد نفسا هي لصاحبها ليست شيء موضوعيا وإنما هي
حقيقة ذاتية وانه بالنسبة للإنسان نجد دائما ذاتاً في مقابل الموضوع قال لك وما الذات .. وما النفس..
أ?ا مجرد حوافز الجوع والجنس والخوف..هي مجرد الإشعارات التي يدرك ?ا الجسد ما يحتاجه.. وا?ال
لجسد مجرد ملحقات

ثانوية على وجوده وخادمة .. وما النفس في مجموعها إلا مجموعة ردود الفعل التي تتراكم كل يوم من
صدام الجسم مع بيئته وظروفه..وهي في النهاية يمكن أن تكون موضوعا هي الأخرى.
موضوع بالنسبة لمن؟
موضوع بالنسبة للآخرين!!؟؟.. وكيف والآخرون لا يرو?ا ولا يدركون وجودها إلا استنباطا من
ظواهر السلوك وهي ظواهر اغلبها كاذبة فكل منا يمثل على الناس بل ويمثل على نفسه وسلوكه الظاهر
قلما يدل عليه.
أم هي موضوع بالنسبة لصاحبها؟!
وكلمنا لو اتخذ نفسه موضوعا فإ?ا تبرد وتستحيل تحت مشرط التحليل إلى جثة وتستخفي عليه و?رب
من يديه لأ?ا لا يمكنان تكون موضوعا ولا أن توضع تحت مجهر مثل ورقة شجرة .. لان جوهرها
بالدرجة الأولى في ذاتيتها، وحقيقتها أ?ا الوجه الأخر من الصورة فهي الذات في مقابل الجسد الذي هو
موضوع..وكلا القطبين الذات و الموضوع هما وجها الحقيقة .. فإذا عرفنا المادة بأ?ا كل ما هو
موضوعي فلا بد من الاعتراف بان هناك في الوجود شيئا غير المادة هو الوجه الآخر من الحقيقة الذي هو
الذات.
فإذا عدنا إلى التعريف الساذج للذات والنفس بأ?ا مجرد حوافز الجوع والجنس والخوف والاشغارات التي
يدرك ?ا الجسد انه ظمآن أو جوعان أو مشتاق جنسيا فإننا أمام تفسير متهافت شديد القصور فما هكذا
حقيقة النفس ولا حقيقة الإنسان .
إن الإنسان ليضحي بلقمته وبيته وفراشه الدافئ في سبيل أهداف ومثل وغايات شديدة التجريد كالعدل
والحق والحرية ، فأين حوافز الجوع والجنس هنا .. وحتى العامل البروليتاري في فيتنام الذي يموت على
مدفعه في سبيل غد لم يأت بعد .. هو إثبات قاطع بان النفس والذات حقيقة متجاورة وعالية على الجسد
وليست مجرد احتياجات الجسد الحسية معكوسة في مرآة داخلية تلك الإرادة الهائلة التي تدوس على
الجسد وتضحي به هي حقيقة متجاورة وعالية بطبيعتها وآمرة ومهيمنة على الجسد وليست للجسد تبعا
وذيلا .

وإذا كنت أنا الجوع فكيف أتحكم في الجوع .. إن مجرد الهيمنة الداخلية على جميع عناصر الجسد
ومفردات الغرائز هي الكاشفة عن ذلك العنصر المتعالي والمفارق الذي تتألف منه الذات الإنسانية .
عن طريق النفس أتحكم في الجسد .
عن طريق العقل أتحكم في النفس .
وعن طريق البصيرة أضع للعقل حدود .
هذا التفاضل بين وجود ووجود يعلو عليه ويحكمه هو الإثبات الواقعي الذي يقودنا إلى الروح كحقيقة
عالية متجاوزة للجسد وحاكمة عليه و ليست ذيلا وتابعا تموت بموته.
والذي يقول بان الإنسان مجموعة وظائف فسيولوجية مادية لا غير .. عليه أن يفسر لنا أين ذلك
الإنسان في لحظة النوم .
إن جميع الوظائف الفسيولوجية قائمة ومستمرة أثناء النوم و جميع الأفعال المنعكسة تحدث بانتظام فإذا
شككت اليد بدبوس انقبضت بعيدا عنك .. والقلب بالمثل يدق والتنفس يتردد والغدد تفرز والأحشاء
تتلوى والأعضاء التناسلية ?تاج.. ومع ذلك فنحن أمام رجل نائم أشبه بشجرة.. مجرد شجرة أو حيوان
.. أو حياة بدائية لا تختلف عن الحياة الحشرية .. فأين الإنسان .
إن النوم ثم اليقظة وهو النموذج المصغر للموت ..ثم البعث يكشف مرة أخرى عن ذلك العنصر المتعالي
الذي يخلق بحضوره في تلك الجثة النائمة فجأة وبلا مقدمات هتلر ونيرون وكاليجولا فإذا بذلك الممدد
كالثور الهامد يصحو ليقتل ويغزو ويسحق ويمحق ..وان الفرق لهائل .. اكبر من إن يفسر بتغير مادي
يتم في لحظات .
إن التبسيط المخل والبحث عن السهل خلاصا من مشكلة بلا جواب هو الذي دفع الماديين إلى هذا
التصوير الساذج للإنسان بأنه جسد ومجموعة ردود أفعال وانه من التراب يأتي والى التراب ينتهي ولا

افهم كيف طاوعتهم نفوسهم على تصديق هذه النكتة في عالم رائع محكم تشهد كل ذرة فيه بالنظام
والجمال وتتسلسل فيه الأسباب إلى غايا?ا ويخدم فيه الموت والحياة ويفتدي الإنسان بدمه كل لحظة اشد
المثل و الأهداف تجريدا .. ولا يذهب أي شيء هباء .
فكيف يذهب النسيان وهو اشرف المخلوقات هباء..ويتبدد سدى .
ونقف مرة أخرى أمام ملاحظة ثانية تستحق التأمل هي هذه الخاصية التي تتميز ?ا الحركة.
فالحركة لا يمكن رصدها إلا من خارجها .
لا يمكن أن تدرك الحركة وأنت تتحرك معها في نفس الفلك .. ولا بد لك من عتبة خارجية تقف عليها
لترصدها..ولهذا تأتي عليك لحظة وأنت في أسانسير متحرك لا تستطيع أن تعرف هل هو واقف أو
متحرك ... لأنك أصبحت قطعة واحدة معه في حركته..لا تستطيع إدراك هذه الحركة إلا إذا نظرت من
باب الأسانسير إلى الرصيف الثابت في الخارج .
ونفس الحال في قطار يسير بنعومة على القضبان ..لا تدرك حركة مثل هذا القطار و أنت فيه إلا لحظة
شروعه في الحركة أو شروعه في الوقوف أو لحظة إطلالك من النافذة على الرصيف الثابت في الخارج .
وبالمثل لا يمكنك رصد حركة الشمس وأنت فوقها ولكنك يمكنك رصدها من القمر أو الأرض ..كما لا
يمكنك رصد الأرض وأنت تسكن عليها وإنما تستطيع رصدها من على القمر .
لا تستطيع أن تحيط بحالة إلا إذا خرجت خارجها .
وعملية الإدراك هي إثبات أكيد بأن هناك شيئين في كل لحظة..الشيء المدرك .. والنفس المدركة
خارجه.
ولهذا ما كنا نستطيع إدراك مرور الزمن لولا أن الجزء المدرك غينا يقف على عتبة منفصلة وخارجة عن
المرور الزمني المستمر.

ولو كان إدراكنا يقفز مع عقرب الثواني كل لحظة لما استطعنا أن ندرك هذه الثواني أبدا .. ولا نصرم
إدراكنا كما تنصرم الثواني بدون أن يلاحظ شيئا ...
وهي نتيجة مذهلة تستدعي وقفة تأمل طويلة ..
فها نحن أمام حقيقة إنسانية جزء منها غارق في الزمن ينصرم مع الزمن ويكبر ويشيخ ويهرم (وهو
الجسد) وجزء منها خارج عن هذا الزمن يلاحظه من عتبة سكون ويدركه دون أن يتورط فيه ولهذا فهو
لا يهرم ولا يشيخ ولا يكبر ولا ينصرم .. ويوم لا يسقط الجسد ترابا سوف يظل هو على حاله حيا
حياته الخاصة الغير زمنية..ولا نجد لهذا الجزء اسما غير الاسم الذي نقلته لنا الأديان ..وهو الروح ...
وكل منا يستطيع أن يلمس هذا الوجود الروحي بداخله.. ويدرك انه وجود مغاير في نوعيته للوجود
الخارجي النابض المتغير الذي يتدفق من حولنا في شلالات من التغيرات.
كل منا يستطيع أن يحس أن بداخله حالة حضور وديمومة وامتثال وشخوص وكينونة حاضرة مغايرة
تماما للوجود المادي المتغير الذي يتدفق حولنا في شلال من المتغيرات .
هذه الحالة الداخلية التي ندركها في لحظات الصحو الداخلي والتي سميتها حالة حضور..هي المفتاح الذي
يقودنا إلى الوجود الروحي بداخلنا ويضع يدنا على هذا اللغز الذي اسمه الروح .. أو المطلق ..أو ا?رد .
ونحن حين ندرك الجمال ونميزه من القبح.. وندرك الحق ونميزه عن الباطل .. وندرك العدل ونميزه عن
الظلم .. فنحن بكل مرة نقيس بمعيار .. بمسطرة منفصلة عن الحادث الذي نقيسه.. فنحن إذا نقيس من
نفس العتبة..عتبة الروح..فالوجود الروحي يدل عليه أيضا الضمير.. ويدل عليه أيضا الإحساس الجمالي..
وتدل عليه الحاسة الخفية التي تميز الحق من الباطل والزائف من الصحيح
هل هذه العتبة خارج الزمن هي إلى الأبد ؟.. أو هي زمن آخر له تقويم مختلف ..اليوم فيه بألف سنة
..كما ورد في القران (إن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون )وكما جاء عن أيام الله ..وهي أيام غير
أيامنا ذهب في تفسيرها المفسرون كل مذهب كل هذه تفاصيل لا يمكن إدراكها.. وهي في الغالب مجرد
إشارات ورموز تشير ولا تبين و ترمز ولا تشرح.. لان بيان حقيقة الروح وكهنها أمر فوق مستوى
إدراكنا ... أما الحكم بوجودها فهو من الممكن وهو الواجب والضروري.

ولعل الروح هي طابع الحسن الذي تركه الخالق على كل منا كأثر من آثار يديه..ولعلها من روحه هو إذ
نفخ فينا من روحه ..فهي هبة منه ونفخة منه وشرارة مقدسة من نوره وشعاع من شمسه الأبدية ..
وهي الصورة التي صور?ا لنا الأديان ..وهي الصورة الأقرب والأجمل .
ونحن لا نبتعد بعيدا إذا عرفنا هذه الروح داخلنا بأ?ا الحرية حريتنا الداخلية العميقة الباطنة في أعماق
السريرة والتي شاء الخالق أن تكون طليقة من كل قيد وحفظها من كل دخيل ووضع جنده خارجها
وجعلها قدس الأقداس
وحرما محرما على الجميع إلا صاحبها-
فنحن في أعماق سرائرنا نشاء كما يشاء الخالق ونختار كما يختار ولهذا اخلفنا على الأرض وجعل منا آلهة
صغيرة تحكم وجعلها لنا محنة وامتحانا واختبارا وبروفة يكون بعدها سؤال وحساب وإعادة ترتيب في
مقامات يوضع كل واحد في مقامه الذي استحقه بجدارته ....
إن منطقة السريرة هي منطقة الحرية وهي منطقة المساءلة (أنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)
.. إن منطقة النية والإضمار .. هي المنطقة التي يلاحظها الله بعلمه ويقيم عليها حسابه لأ?ا منطقة الحرية
..وإنما يبدأ الجبر وتبدأ القيود حينما تنطلق من السريرة إلى الفعل ثم إلى التحقيق في العالم المادي ... هنا
تتصادم الحريات مع بعضها البعض ومع ظروف البيئة ومع ا?تمع وتتداخل الإرادة الإلهية لتحد من شر
الشرير ولتفسح ا?ال للخير ولتخفف من ضررنا على بعضنا البعض بمقتضى ما فيها من رحمة ولتمد
كل واحد بمدد من الإمكانات من جنس ضميره واستحقاقه .
ولهذا يستوي عندي أن اقول أن الله خلق لي روحا
وأن أقول... أن الله خلقني حرية..أو خلقني فردا متفردا فكل عبارة منهما تشرح الأخرى .. وتصف من
الأعماق ما لا استطيع أن أراه بالعين أو المسه باليد .. أو أجد له ألفاظا ومصطلحات.

وفي منطقة الروح لا نستطيع أكثر من إشارة ولا نجد أكثر من رمز.. حيث نحن على عتبة خارج الزمن
وخارج كل شيء محسوس ومنظور


==

الحياة بأكملها سر ، والموت لغز ، فسرها الدين ولم يفسرها العلم .

والموت ليس له سبب ، فالقلب قد يتوقف لكن هناك أجهزة لتنشيطه ، والدماغ قد يتوفى دماغيا لكن الجسم يكون في حالة حية ، والإنسان قد يتعرض لحادث لكن قد يبقى حيا وقد يصبح مشلولا فقط وقد تصيبه بعض الجروح البسيطة وقد لا يصيبه شيء ، السكري ينزل ويقل الاكسجين في الجسم ولكن بعد إعطاء المريض شراب محلى يصبح طبيعيا !

إذا سر الموت ليس في الجسم وليس في إختلال عضو من أعضاءه ، بل هناك سر آخر .

بل إن الشخص الذي مات و عمره أربعون مثلا ، ماتت خلايا جسمه 30 مرة تقريبا ،يعني الإنسان حي وخلاياه تموت .

أن الإنسان أبدي إلي حد كبير نظريا ؛ فإن خلايا جسمه آلات تقوم بإصلاح ما فيه من الأمراض ومعالجتها تلقائيا! وبرغم ذلك فإن الإنسان يعجز ويموت ؛ ولا تزال علل هذه الظاهرة أسرارا تحير العلماء.

قال تعالى ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى )







للمزيد :

أقوى دليل على الحياة بعد الموت

المنطق والغرض من الحياة ، وسر الحياة والموت!

التوازن العظيم في الكون دليل على وجود الإله الحكيم

نظرات في الطبيعة والكون



صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى